الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِالنَّصِّ، وَالْحَنَفِيَّةِ بِالِاقْتِضَاءِ لِأَنَّهَا إمَّا مُسْكِرَةٌ أَوْ مُخَدِّرَةٌ، وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الْحَشِيشَةِ الْمَقِيسَةِ عَلَى الْجَوْزَةِ عَلَى مَا مَرَّ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ [التَّذْكِرَةُ] وَالنَّوَوِيُّ فِي [شَرْحِ الْمُهَذَّبِ] وَابْنُ دَقِيقٍ الْعِيدُ أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ عِنْدَنَا، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي حَدِّهِمْ السَّكْرَانَ بِأَنَّهُ الَّذِي اخْتَلَّ كَلَامُهُ الْمَنْظُومُ وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ أَوْ الَّذِي لَا يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا الطُّولَ مِنْ الْعَرْضِ، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ الْقَرَافِيِّ أَنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ فَنَفَى عَنْهَا الْإِسْكَارَ وَأَثْبَتَ لَهَا الْإِفْسَادَ ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ وَأَطَالَ فِي تَخْطِئَتِهِ وَتَغْلِيطِهِ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى إسْكَارِهَا أَيْضًا الْعُلَمَاءُ بِالنَّبَاتِ مِنْ الْأَطِبَّاءِ وَإِلَيْهِمْ الْمُرَجِّعُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَتَبِعَهُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي مَذْهَبِهِ.
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ خِلَافُ الْإِطْلَاقَيْنِ إطْلَاقِ الْإِسْكَارِ وَإِطْلَاقِ الْإِفْسَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِسْكَارَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ تَغْطِيَةِ الْعَقْلِ، وَهَذَا إطْلَاقٌ أَعَمُّ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ تَغْطِيَةُ الْعَقْلِ مَعَ نَشْوَةٍ وَطَرَبٍ، وَهَذَا إطْلَاقٌ أَخَصُّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِسْكَارِ حَيْثُ أُطْلِقَ. فَعَلَى الْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْمُخَدِّرِ عُمُومٌ مُطْلَقٌ إذْ كُلُّ مُخَدِّرٍ مُسْكِرٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْكِرٍ مُخَدِّرًا؛ فَإِطْلَاقُ الْإِسْكَارِ عَلَى الْحَشِيشَةِ وَالْجَوْزَةِ وَنَحْوِهِمَا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّحْذِيرُ، وَمَنْ نَفَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَرَادَ بِهِ مَعْنَاهُ الْأَخَصَّ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مِنْ شَأْنِ السُّكْرِ بِنَحْوِ الْخَمْرِ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ النَّشْوَةُ وَالنَّشَاطُ وَالطَّرَبُ وَالْعَرْبَدَةُ وَالْحَمِيَّةُ، وَمِنْ شَأْنِ السُّكْرِ بِنَحْوِ الْحَشِيشَةِ وَالْجَوْزَةِ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ أَضْدَادُ ذَلِكَ مِنْ تَخْدِيرِ الْبَدَنِ وَفُتُورِهِ وَمِنْ طُولِ السُّكُوتِ وَالنَّوْمِ وَعَدَمِ الْحَمِيَّةِ وَبِقَوْلِي مِنْ شَأْنِهِ فِيهِمَا يُعْلَمُ رَدُّ مَا أَوْرَدَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَلَى الْقَرَافِيِّ مِنْ أَنَّ بَعْضَ شَرَبَةِ الْخَمْرِ يُوجَدُ فِيهِ مَا ذُكِرَ فِي نَحْوِ الْحَشِيشَةِ وَبَعْضَ أَكْلِهِ نَحْوَ الْحَشِيشَةِ يُوجَدُ فِيهِ مَا ذُكِرَ فِي الْخَمْرِ.
وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ مَا نِيطَ بِالْمَظِنَّةِ لَا يُؤْثِرُ فِيهِ خُرُوجُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ، كَمَا أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ لَمَّا نِيطَ بِمَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الْمَشَقَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ، فَاتَّضَحَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ عَبَّرَ فِي نَحْوِ الْحَشِيشَةِ بِالْإِسْكَارِ وَمَنْ عَبَّرَ بِالتَّخْدِيرِ وَالْإِفْسَادِ، وَالْمُرَادُ بِهِ إفْسَادٌ خَاصٍّ هُوَ مَا سَبَقَ. فَانْدَفَعَ بِهِ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ إنَّ التَّعْبِيرَ بِهِ يَشْمَلُ الْجُنُونَ وَالْإِغْمَاءَ لِأَنَّهُمَا مُفْسِدَانِ لِلْعَقْلِ أَيْضًا، فَظَهَرَ بِمَا تَقَرَّرَ صِحَّةُ قَوْلِ الْفَقِيهِ الْمَذْكُورِ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute