لِلْإِنْكَارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلْيَتَأَمَّلْ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: ٥٢] أَيْ لَا يُرْشِدُ كَيْدَ مَنْ خَانَ أَمَانَتَهُ بَلْ يَحْرِمُهُ هِدَايَتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَيَفْضَحُهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي الْعُقْبَى، فَالْخِيَانَةُ قَبِيحَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَكِنَّ بَعْضَهَا أَشَدُّ وَأَقْبَحُ مِنْ بَعْضٍ، إذْ مَنْ خَانَك فِي فَلْسٍ لَيْسَ كَمَنْ خَانَك فِي أَهْلِك. وَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمْرَ الْأَمَانَةِ تَعْظِيمًا بَلِيغًا، وَأَكَّدَهُ تَأْكِيدًا شَدِيدًا. فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} [الأحزاب: ٧٢] أَيْ التَّكَالِيفَ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ مِنْ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي {عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: ٧٢] أَيْ آدَم صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا} [الأحزاب: ٧٢] أَيْ لِنَفْسِهِ بِقَبُولِهِ تِلْكَ التَّكْلِيفَاتِ الشَّاقَّةِ جِدًّا {جَهُولا} [الأحزاب: ٧٢] أَيْ بِمَشَقَّتِهَا الَّتِي لَا تَتَنَاهَى.
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الدُّنْيَا كَالْبُسْتَانِ، وَزَيَّنَهَا بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ: بِعِلْمِ الْعُلَمَاءِ، وَعَدْلِ الْأُمَرَاءِ، وَعِبَادَةِ الصَّالِحِينَ، وَنَصِيحَةِ الْمُسْتَشَارِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ. فَقَرَنَ إبْلِيسُ مَعَ الْعِلْمِ الْكِتْمَانَ، وَمَعَ الْعَدْلِ الْجَوْرَ، وَمَعَ الْعِبَادَةِ الرِّيَاءَ، وَمَعَ النَّصِيحَةِ الْغِشَّ، وَمَعَ الْأَمَانَةِ الْخِيَانَةَ: وَفِي الْحَدِيثِ: «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ» . وَفِيهِ أَيْضًا: «أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ النَّاسِ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا يَبْقَى الصَّلَاةُ، وَرُبَّ مُصَلٍّ وَلَا خَيْرَ فِيهِ» وَذُكِرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ النَّارِ «رَجُلًا لَازَمَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إلَّا خَانَهُ» .
وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ: «تَقَبَّلُوا لِي سِتًّا أَتَقَبَّلْ لَكُمْ الْجَنَّةَ، إذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبْ، وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفْ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ» . وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ: «اضْمَنُوا لِي سِتًّا أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ، اُصْدُقُوا إذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إذَا اُؤْتُمِنْتُمْ» الْحَدِيثَ. وَالطَّبَرَانِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ: «اُكْفُلُوا لِي سِتًّا أَكْفُلْ لَكُمْ الْجَنَّةَ: الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْأَمَانَةَ وَالْفَرْجَ وَالْبَطْنَ وَاللِّسَانَ» . وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ «حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، أَيْ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ أَصْلُهَا، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَةِ فَقَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا فِي قَلْبِهِ مِثْلُ الْوَكْتِ: أَيْ بِفَتْحٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute