للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ رَأَيْت فِي كَلَامِ الْأَذْرَعِيِّ وَالزَّرْكَشِيِّ مَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته فِي التَّطَفُّلِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا حَكَى قَوْلَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْأُمِّ: مَنْ يَغْشَى الدَّعْوَةَ بِغَيْرِ دُعَاءٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا يَسْتَحِلُّ صَاحِبُ الطَّعَامِ فَتَتَابَعَ ذَلِكَ مِنْهُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ مُحَرَّمَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَةُ دَعْوَةَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ طَعَامُ سُلْطَانٍ أَوْ رَجُلٍ يَتَشَبَّهُ بِسُلْطَانٍ فَيَدْعُو النَّاسَ فَهَذَا طَعَامُ عَامَّةٍ وَلَا بَأْسَ بِهِ. انْتَهَى بِلَفْظِهِ.

قَالَ: وَفِي الرَّوْضَةِ عَنْ الشَّامِلِ إنَّمَا اشْتَرَطَ تَكْرَارَ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ شُبْهَةٌ حَتَّى يَمْنَعَهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ، فَإِذَا تَكَرَّرَ صَارَ دَنَاءَةً وَقِلَّةَ مُرُوءَةٍ انْتَهَى. ثُمَّ قَالَ مَا نَقَلَهُ عَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ مِنْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا اشْتَرَطَ التَّكْرَارَ فِي حُضُورِ الدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ دَنَاءَةً وَقِلَّةَ مُرُوءَةٍ بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ عَلَّلَ الرَّدَّ بِأَنَّهُ يَأْكُلُ مُحَرَّمًا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الرَّدِّ مِنْ جِهَةِ إصْرَارِهِ عَلَى الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ فِي حُكْمِ الْكَبِيرَةِ لَا مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْمُرُوءَةِ فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا فِي الْأَكْلِ الْمُجَرَّدِ، أَمَّا لَوْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ انْتِهَابُ الطَّعَامِ النَّفِيسِ وَالْحُلْوِ أَوْ حَمْلِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ السَّفَلَةُ وَيَشُقُّ ذَلِكَ عَلَى الْحَاضِرِينَ وَيَغُضُّونَ عَنْهُ حَيَاءً فَهُوَ خَرْقٌ لِلْمُرُوءَةِ وَإِلْقَاءٌ لِجِلْبَابِ الْحَيَاءِ، فَيَكْفِي فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ بِهِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّكْرَارُ. انْتَهَى.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ شَيْخِهِ الْأَذْرَعِيِّ فِي قُوَّتِهِ بَعْد إيرَادِهِ كَلَامَ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَأَشَارَ غَيْرُهُ إلَى أَنَّهُ صَغِيرَةٌ فَإِذَا تَكَرَّرَ صَارَ فِي حُكْمِ الْكَبِيرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ اعْتِبَارُ رُبُعِ دِينَارٍ فِي جَعْلِ الْغَصْبِ كَبِيرَةً، وَالْأَكْلُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لَا يَبْلُغُهُ غَالِبًا لَكِنَّهُ تَرْكُ مُرُوءَةٍ. نَعَمْ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السَّفَلَةِ مِنْ الْمُتَطَفِّلِينَ إذَا حَضَرَ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ يَنْتَهِبُ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ الْأَطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ وَالْحَلْوَى وَيَحْمِلُهُ وَيَشُقُّ ذَلِكَ مَشَقَّةً شَدِيدَةً عَلَى صَاحِبِ الدَّعْوَةِ، وَإِنَّمَا يَسْكُتُ حَيَاءً مِنْ النَّاسِ وَمُرُوءَةً فَهُوَ خَرْقٌ لِلْمُرُوءَةِ وَنَزْعٌ لِجِلْبَابِ الْحَيَاءِ، فَيَكْفِي فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ.

وَفِي الْمَوْقِفِ لِلْجِيلِيِّ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ الَّذِي يَأْتِي طَعَامَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا لِمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَتَى طَعَامًا لَمْ يُدْعَ إلَيْهِ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا» ؛ وَلِأَنَّهُ يَأْكُلُ مُحَرَّمًا وَيَفْعَلُ مَا فِيهِ سَفَهٌ وَدَنَاءَةٌ وَذَهَابُ مُرُوءَةٍ فَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الصَّغَائِرِ انْتَهَى.

قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَهَذَا فِي الْأَكْلِ الْمُجَرَّدِ دُونَ النَّهْبِ كَمَا بَيَّنَّاهُ انْتَهَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>