خَوْفَ النُّشُوزِ؛ فَأَمَّا حَقِيقَةُ النُّشُوزِ فَهِيَ مَعْصِيَةٌ وَمُخَالَفَةٌ، مِنْ نَشَزَ إذَا ارْتَفَعَ فَكَأَنَّهَا بِهِ تَرَفَّعَتْ عَلَيْهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ أَنْ لَا تَتَعَطَّرَ لَهُ وَتَمْنَعَهُ نَفْسَهَا وَتَتَغَيَّرَ عَمَّا كَانَتْ تَفْعَلُهُ مِنْ الطَّوَاعِيَةِ، وَالْوَعْظِ التَّخْوِيفِ بِالْعَوَاقِبِ كَأَنْ يَقُولَ لَهَا اتَّقِي اللَّهَ فِي حَقِّي الْوَاجِبِ عَلَيْك وَاخْشِ سَطْوَةَ انْتِقَامِهِ، وَلَهُ أَنْ يَهْجُرَهَا فِي الْمَضْجَعِ بِأَنْ يُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ فِي الْفِرَاشِ وَلَا يُكَلِّمُهَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ يَعْتَزِلُ عَنْهَا فِي فِرَاشٍ آخَرَ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ، وَالثَّانِي أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إنْ أَحَبَّتْهُ شَقَّ عَلَيْهَا هَجْرُهُ فَتَرْجِعُ عَنْ النُّشُوزِ أَوْ كَرِهَتْهُ فَقَدْ وَافَقَ غَرَضَهَا فَيَتَحَقَّقُ نُشُوزُهَا حِينَئِذٍ.
وَقِيلَ اُهْجُرُوهُنَّ مِنْ الْهَجْرِ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهُوَ الْقَبِيحُ مِنْ الْقَوْلِ، أَيْ أَغْلِظُوا عَلَيْهِنَّ فِي الْقَوْلِ وَضَاجِرُوهُنَّ لِلْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ شِدُّوهُنَّ وِثَاقًا فِي بُيُوتِهِنَّ مِنْ هَجَرَ الْبَعِيرَ أَيْ رَبَطَهُ بِالْهِجَارِ وَهُوَ حَبْلٌ يُشَدُّ بِهِ الْبَعِيرُ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَالشُّذُوذِ وَإِنْ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَهَا مِنْ هَفْوَةِ عَالِمٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَكِنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ امْرَأَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا الْهَجْرُ غَايَتُهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ شَهْرٌ كَمَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَسَرَّ إلَى حَفْصَةَ حَدِيثًا أَيْ تَحْرِيمَ مَارِيَةَ أَمَتِهِ النَّازِلُ فِيهَا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: ١] فَأَفْشَتْهُ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. اهـ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ عُلَمَاءَ مَذْهَبِهِ. أَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَعِنْدَهُ مَا أَنَّهُ لَا غَايَةَ لَهُ لِأَنَّهُ لِحَاجَةِ صَلَاحِهَا، فَمَتَى لَمْ تَصْلُحْ تُهْجَرُ، وَإِنْ بَلَغَ سِنِينَ وَمَتَى صَلُحَتْ فَلَا هَجْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} [النساء: ٣٤] وَ (فِي) إمَّا ظَرْفٌ عَلَى بَابِهِ مُتَعَلِّقٌ بِاهْجُرُوهُنَّ: أَيْ اُتْرُكُوا مُضَاجَعَتَهُنَّ أَيْ النَّوْمَ مَعَهُنَّ، أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ اُهْجُرُوهُنَّ مِنْ أَجْلِ تَخَلُّفِهِنَّ عَنْ الْمُضَاجَعَةِ مَعَكُمْ، قِيلَ: وَهَذَا مُتَعَيَّنٌ؛ لِأَنَّ فِي الْمَضَاجِعِ لَيْسَ ظَرْفًا لِلْهَجْرِ وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ. اهـ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الظَّرْفِيَّةُ هُنَا صَحِيحَةٌ، وَالْهَجْرُ وَاقِعٌ فِيهَا، وَقِيلَ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِنُشُوزِهِنَّ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا مَعْنًى؛ لِإِيهَامِهِ قَصْرَ النُّشُوزِ عَلَى الْعِصْيَانِ فِي الْمَضْجَعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ وَلَا صِنَاعَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَقِيلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute