{وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء: ٢٣] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: ٢٤] أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا، وَهُوَ الْبِرُّ وَالشَّفَقَةُ وَالْعَطْفُ وَالتَّوَدُّدُ وَإِيثَارُ رِضَاهُمَا. وَنَهَى عَنْ أَنْ يُقَالَ لَهُمَا أُفٍّ، إذْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْإِيذَاءِ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ حَتَّى بِأَقَلِّ أَنْوَاعِهِ، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ: «لَوْ عَلِمَ اللَّهُ شَيْئًا أَدْنَى مِنْ أُفٍّ لَنَهَى عَنْهُ، فَلْيَعْمَلْ الْعَاقُّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَلَ فَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلْيَعْمَلْ الْبَارُّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَلَ فَلَنْ يَدْخُلَ النَّارَ» . ثُمَّ أَمَرَ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمَا الْقَوْلُ الْكَرِيمُ: أَيْ اللَّيِّنُ اللَّطِيفُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْعَطْفِ وَالِاسْتِمَالَةِ وَمُوَافَقَةِ مُرَادِهِمَا وَمَيْلِهِمَا وَمَطْلُوبِهِمَا مَا أَمْكَنَ سِيَّمَا عِنْدَ الْكِبَرِ، فَإِنَّ الْكَبِيرَ يَصِيرُ كَحَالِ الطِّفْلِ وَأَرْذَلَ؛ لِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَرَفِ وَفَسَادِ التَّصَوُّرِ، فَيَرَى الْقَبِيحَ حَسَنًا وَالْحَسَنَ قَبِيحًا، فَإِذَا طَلَبْت رِعَايَتَهُ وَغَايَةَ التَّلَطُّفِ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَأَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِمَا يُنَاسِبُ عَقْلَهُ إلَى أَنْ يَرْضَى فَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْلَى.
ثُمَّ أَمَرَ - تَعَالَى - بَعْدَ الْقَوْلِ الْكَرِيمِ بِأَنْ يَخْفِضَ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنْ لَا يُكَلِّمَهُمَا إلَّا مَعَ الِاسْتِكَانَةِ وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَإِظْهَارِ ذَلِكَ لَهُمَا، وَاحْتِمَالِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمَا، وَيُرِيهِمَا أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِمَا وَبِرِّهِمَا، وَأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ، وَلَا يَزَالُ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُثَلِّجَ خَاطِرَهُمَا، وَيُبَرِّدَ قَلْبَهُمَا عَلَيْهِ، فَيَنْعَطِفَا عَلَيْهِ بِالرِّضَا وَالدُّعَاءِ؛ وَمِنْ ثَمَّ طَلَبَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمَا؛ لِأَنَّ مَا سَبَقَ يَقْتَضِي دُعَاءَهُمَا لَهُ كَمَا تَقَرَّرَ فَلْيُكَافِئْهُمَا إنْ فُرِضَتْ مُسَاوَاةٌ، وَإِلَّا فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ، وَكَيْفَ تُتَوَهَّمُ الْمُسَاوَاةُ، وَقَدْ كَانَا يَحْمِلَانِ أَذَاك وَكَلَّك وَعَظِيمَ الْمَشَقَّةِ فِي تَرْبِيَتِك، وَغَايَةَ الْإِحْسَانِ إلَيْك، رَاجِينَ حَيَاتَك، مُؤَمَّلِينَ سَعَادَتَك، وَأَنْتَ إنْ حَمَلْت شَيْئًا مِنْ أَذَاهُمَا رَجَوْت مَوْتَهُمَا، وَسَئِمْت مِنْ مُصَاحَبَتِهِمَا؛ وَلِكَوْنِ الْأُمِّ أَحْمَلَ لِذَلِكَ وَأَصْبَرَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ عَنَاءَهَا أَكْثَرُ وَشَفَقَتَهَا أَعْظَمُ بِمَا قَاسَتْهُ مِنْ حَمْلٍ وَطَلْقٍ وَوِلَادَةٍ وَرَضَاعٍ وَسَهَرِ لَيْلٍ، وَتَلَطُّخٍ بِالْقَذَرِ وَالنَّجَسِ، وَتَجَنُّبٍ لِلنَّظَافَةِ وَالتَّرَفُّهِ حَضَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بِرِّهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَعَلَى بِرِّ الْأَبِ مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ أُمُّك، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أُمُّك، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّك، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أَبُوك ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ» .
وَقَدْ رَأَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَجُلًا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ حَامِلًا أُمَّهُ عَلَى رَقَبَتِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute