للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ التَّقْيِيدِ بِدَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ لَا يَبْقَوْنَ فِي النَّارِ إلَّا بِقَدْرِ مُدَّةِ دَوَامِهِمَا مِنْ حِينِ إيجَادِهِمَا إلَى إعْدَامِهِمَا، وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْآيَةِ أَنَّهُمَا مَتَى كَانَتَا دَائِمَتَيْنِ كَانَ كَوْنُهُمَا فِي النَّارِ بَاقِيًا، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ كُلَّمَا حَصَلَ الشَّرْطُ وَهُوَ دَوَامُهُمَا حَصَلَ الْمَشْرُوطُ وَهُوَ بَقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ، وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا عُدِمَ الشَّرْطُ يُعْدَمُ الْمَشْرُوطُ، وَنَظِيرُهُ أَنَّك إذَا قُلْت: إنْ كَانَ هَذَا إنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ، ثُمَّ قُلْت: لَكِنَّهُ إنْسَانٌ، أَنْتَجَ أَنَّهُ حَيَوَانٌ، أَوْ لَكِنَّهُ لَيْسَ هَذَا بِإِنْسَانٍ لَمْ يُنْتِجْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ عَقِيمٌ، فَكَذَا هُنَا إذَا قُلْنَا: مَا دَامَتَا بَقِيَ عِقَابُهُمْ، ثُمَّ قُلْنَا: لَكِنَّهُمَا دَائِمَتَانِ لَزِمَ دَوَامُ عِقَابِهِمْ. أَوْ لَكِنَّهُمَا مَا بَقِيَتَا لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ دَوَامِ عِقَابِهِمْ. لَا يُقَالُ: إذَا دَامَ عِقَابُهُمْ بَقِيَتَا أَوْ عُدِمَتَا فَلَا فَائِدَةَ لِلتَّقْيِيدِ بِدَوَامِهِمَا. لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ وَهُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى بَقَاءِ ذَلِكَ الْعَذَابِ دَهْرًا دَائِمًا طَوِيلًا لَا يُحِيطُ الْعَقْلُ بِقَدْرِ طُولِهِ وَامْتِدَادِهِ، فَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ لِذَلِكَ الْعَذَابِ آخِرٌ أَمْ لَا؟ فَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَهُوَ الْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِتَأْبِيدِ خُلُودِهِمْ الْمُسْتَلْزِمِ أَنَّهُ لَا آخِرَ لَهُ.

وَمِنْ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ مَنْ فِيهَا لِأَنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْ النَّارِ إلَى الزَّمْهَرِيرِ، وَإِلَى شُرْبِ الْحَمِيمِ ثُمَّ يَعُودُونَ فِيهَا فَهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا إلَّا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَوْقَاتَ عَذَابٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ لَيْسُوا حِينَئِذٍ فِيهَا حَقِيقَةً أَوْ أَنَّ مَا لِمَنْ يَعْقِلُ كَ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: ٣] فَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً لِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ضَمِيرِ خَالِدِينَ مُتَّصِلًا بِنَاءً عَلَى شُمُولِ شَقُوا لَهُمْ أَوْ مُنْقَطِعًا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ شُمُولِهِ لَهُمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَوْ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَإِلَّا بِمَعْنَى سِوَى: أَيْ مَا دَامَتَا سِوَى مَا شَاءَ رَبُّك زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ، وَبَقِيَتْ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ أَعْرَضْتُ عَنْهَا لِبُعْدِهَا، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ تَصْفِقُ فِيهِ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ وَذَلِكَ بَعْدَمَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا» . لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ مَنْ قَالُوا فِيهِ: إنَّهُ غَيْرُ ثِقَةٍ وَصَاحِبُ أَكَاذِيبَ كَثِيرَةٍ عَظِيمَةٍ، نَعَمْ نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ. وَذَهَبَ إلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ انْتَهَى. وَيَرُدُّ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْحَسَنِ قَوْلَ غَيْرِهِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ، قَالَ ثَابِتٌ: سَأَلْت الْحَسَنَ عَنْ هَذَا فَأَنْكَرَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>