للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفَشَا ذَلِكَ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالُوا إنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ وَكَانُوا يَقُولُونَ هَذَا عِلْمُ سُلَيْمَانَ وَمَا تَمَّ مُلْكُهُ إلَّا بِهِ وَسَحَرَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالطَّيْرَ وَالرِّيحَ الَّتِي تَجْرِي بِأَمْرِهِ وَمَرَدَةَ الْجِنِّ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ كَانَ قَدْ دَفَنَ كَثِيرًا مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهَا تَحْتَ سَرِيرِ مُلْكِهِ خَوْفًا عَلَى أَنَّهُ إنْ هَلَكَ الظَّاهِرُ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ يَبْقَى هَذَا الْمَدْفُونُ مِنْهَا فَبَعْدَ مُدَّةٍ تَوَصَّلَ مُنَافِقُونَ إلَى أَنْ كَتَبُوا فِي خِلَالِهَا أَشْيَاءَ مِنْ السِّحْرِ تُنَاسِبُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ أَوْهَمُوا النَّاسَ أَنَّهُ مِنْ عَمَلِ سُلَيْمَانَ وَأَنَّهُ مَا وَصَلَ إلَى مَا وَصَلَ إلَّا بِهِ.

ثُمَّ إضَافَتُهُمْ السِّحْرَ لِسُلَيْمَانَ إمَّا لِتَفْخِيمِ شَأْنِ السِّحْرِ لِتَقْبَلَهُ النَّاسُ، وَإِمَّا لِقَوْلِ الْيَهُودِ إنَّهُ مَا وُجِدَ ذَلِكَ الْمُلْكُ إلَّا بِالسِّحْرِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمَّا سُخِّرَ لَهُ مَا مَرَّ كَالْجِنِّ وَكَانَ يُخَالِطُهُمْ وَيَسْتَفِيدُ مِنْهُمْ أَسْرَارًا عَجِيبَةً غَلَبَ عَلَى الظُّنُونِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُ - حَاشَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ - اسْتَفَادَ السِّحْرَ مِنْهُمْ وَذَلِكَ السِّحْرُ كُفْرٌ فَلِذَلِكَ بَرَّأَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة: ١٠٢] الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُمْ نَسَبُوهُ لِلْكُفْرِ كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ قَالُوا أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ نَبِيًّا وَمَا كَانَ سَاحِرًا.

وَرُوِيَ أَنَّ سَحَرَةَ الْيَهُودِ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَخَذُوا السِّحْرَ عَنْ سُلَيْمَانَ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْكُفْرَ الْقَبِيحَ إنَّمَا هُوَ لَاحِقٌ بِهِمْ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: ١٠٢] ، وَالسِّحْرُ: لُغَةً كُلُّ مَا لَطَفَ وَدَقَّ، مِنْ سَحَرَهُ إذَا أَبْدَى لَهُ أَمْرًا فَدَقَّ عَلَيْهِ وَخَفِيَ، وَمِنْهُ: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: ١١٦] وَهُوَ مَصْدَرٌ شَاذٌّ إذْ لَمْ يَأْتِ مَصْدَرٌ لِفِعْلِ يَفْعَلُ بِفَتْحِ عَيْنِهِ فِيهِمَا عَلَى فِعْلٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ إلَّا هَذَا وَفَعَلَ وَالسَّحْرُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ الْغِذَاءُ لِخَفَائِهِ وَالرِّئَةُ وَمَا تَعَلَّقَ بِالْحُلْقُومِ وَهُوَ يَرْجِعُ لِمَعْنَى الْخَفَاءِ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي» ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: ١٥٣] مَعْنَاهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِي يُطْعَمُونَ وَيَشْرَبُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء: ١٥٤] أَيْ وَمَا أَنْتَ إلَّا ذُو سِحْرٍ مِثْلُنَا.

وَشَرْعًا يَخْتَصُّ بِكُلِّ أَمْرٍ يَخْفَى سَبَبُهُ وَعُمِلَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ، وَيَجْرِي مَجْرَى التَّمْوِيهِ وَالْخِدَاعِ، وَحَيْثُ أُطْلِقَ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا فِيمَا يَنْفَعُ وَيُمْدَحُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» : أَيْ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُوضِحُ الْمُشْكِلَ وَيَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِحُسْنِ بَيَانِهِ وَبَلِيغِ عِبَارَتِهِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ لِلْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ إذْ شَبَهُهُ بِالسِّحْرِ بَعِيدٌ وَاسْتُدِلَّ بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>