مِنْ كُلِّ تَجَمُّلٍ وَتَزَيُّنٍ وَتَكَرُّمٍ لِأَجْلِ النَّاسِ. كَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ لَا فِي مَعْرِضِ الْعِبَادَةِ وَالصَّدَقَةِ بَلْ لِيُقَالَ: إنَّهُ سَخِيٌّ.
وَوَجْهُ عَدَمِ حَرَكَةِ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا مَرَّ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ التَّلْبِيسِ بِالدِّينِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، «وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ سَوَّى عِمَامَتَهُ وَشَعْرَهُ وَنَظَرَ وَجْهَهُ فِي الْمِرْآةِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَوَتَفْعَلُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنْ الْعَبْدِ أَنْ يَتَزَيَّنَ لِإِخْوَانِهِ إذَا خَرَجَ إلَيْهِمْ» . نَعَمْ هَذَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِبَادَةٌ مُتَأَكِّدَةٌ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ وَاسْتِمَالَةِ قُلُوبِهِمْ مَا أَمْكَنَهُ. إذْ لَوْ سَقَطَ مِنْ أَعْيُنِهِمْ لَأَعْرَضُوا عَنْهُ فَلَزِمَهُ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ مَحَاسِنَ أَحْوَالِهِ لِئَلَّا يَزْدَرُوهُ فَيُعْرِضُوا عَنْهُ لِامْتِدَادِ أَعْيُنِ عَامَّةِ الْخَلْقِ إلَى الظَّوَاهِرِ دُونَ السَّرَائِرِ، فَهَذَا قَصْدُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ قُرْبَةٌ أَيُّ قُرْبَةٍ، وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي الْعُلَمَاءِ وَنَحْوِهِمْ إذَا قَصَدُوا بِتَحْسِينِ هَيْئَاتِهِمْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: اخْتَلَفَ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِيمَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ الرِّيَاءَ وَالْعِبَادَةَ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إنْ غَلَبَ بَاعِثُ الدُّنْيَا فَلَا ثَوَابَ لَهُ، أَوْ بَاعِثُ الْآخِرَةِ فَلَهُ الثَّوَابُ وَإِنْ تَسَاوَيَا تَسَاقَطَا فَلَا ثَوَابَ أَيْضًا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا ثَوَابَ مُطْلَقًا لِلْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ كَخَبَرِ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ هُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ» . وَأَوَّلَ الْغَزَالِيُّ الْحَدِيثَ عَلَى مَا إذَا اسْتَوَى الْقَصْدَانِ أَوْ كَانَ قَصْدُ الرِّيَاءِ أَرْجَحَ، وَصَرِيحُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ أَنَّ الرِّيَاءَ وَلَوْ مُحَرَّمًا لَا يَمْنَعُ أَصْلَ الثَّوَابِ عِنْدَهُ إذَا كَانَ بَاعِثُ الْعِبَادَةِ أَغْلَبَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ اطِّلَاعُ النَّاسِ مُرَجِّحًا وَمُقَوِّيًا نَشَاطَهُ، وَلَوْ فُقِدَ لَمْ يَتْرُكْ الْعِبَادَةَ، وَلَوْ انْفَرَدَ قَصْدُ الرِّيَاءِ لَمَا أَقْدَمَ، فَاَلَّذِي نَظُنُّهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُحْبِطُ أَصْلَ الثَّوَابِ، وَلَكِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى مِقْدَارِ قَصْدِ الرِّيَاءِ وَيُثَابُ عَلَى مِقْدَارِ قَصْدِ الثَّوَابِ انْتَهَى، وَقَدْ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ: إذَا قَصَدَ الْأَجْرَ وَالْمَحْمَدَةَ جَمِيعًا فِي صَدَقَتِهِ وَصَلَاتِهِ فَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي يُنَاقِضُ الْإِخْلَاصَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِي كِتَابِ الْإِخْلَاصِ، وَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ أَصْلًا انْتَهَى، وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الَّذِي يُتَّجَهُ تَرْجِيحُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمُصَاحِبُ لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ رِيَاءً مُبَاحًا لَمْ يَقْتَضِ إسْقَاطَ ثَوَابِهَا مِنْ أَصْلِهِ بَلْ يُثَابُ عَلَى مِقْدَارِ قَصْدِهِ الْعِبَادَةَ وَإِنْ ضَعُفَ، أَوْ مُحَرَّمًا اقْتَضَى سُقُوطَهُ مِنْ أَصْلِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute