نُصْلِحُهَا فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَتَرْكَ الْجِهَادِ، فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى كَانَ آخِرَ غَزَاةٍ غَزَاهَا بِقُسْطَنْطِينِيَّة فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَتُوُفِّيَ هُنَالِكَ وَدُفِنَ فِي أَصْلِ سُوَرِهَا وَهُمْ يَسْتَسْقُونَ بِهِ، وَلَا شَاهِدَ فِي هَذَا لِأَنَّ أَبَا أَيُّوبَ لَمْ يَقُلْ يَحِلُّ إلْقَاءُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ فِي الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِ نِكَايَةٍ وَهَذَا هُوَ الْمُدَّعَى.
وَاسْتُدِلَّ أَيْضًا بِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ أَلْقَوْا بِنُفُوسِهِمْ فِي الْعَدُوِّ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَكَذَا وَقَعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ لِرَجُلٍ فَقِيلَ أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ فَقَالَ كَذَبُوا {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: ٢٠٧] وَلَا شَاهِدَ لَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُلَاقِ الْمُدَّعَى أَيْضًا لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوَقَائِعِ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ أَحَدًا أَلْقَى بِنَفْسِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا تَظْهَرُ مِنْهُ نِكَايَةٌ فِيهِمْ، بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ مَا أَقْدَمُوا ذَلِكَ الْإِقْدَامَ الْأَعْظَمَ إلَّا لِإِيقَاعِ نِكَايَةٍ فِي عَدُوِّهِمْ هَذَا قَصْدُهُمْ، ثُمَّ تَارَةً يَظْهَرُ مِنْ قَاصِدِ ذَلِكَ نِكَايَةٌ وَتَارَةً لَا، وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى قَصْدِ النِّكَايَةِ فِيهِمْ لَا ظُهُورِهَا، وَقِيلَ: هِيَ إحْبَاطُ الْإِنْفَاقِ فِي الْجِهَادِ بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمِنَّةِ، وَقِيلَ: هِيَ الْقُنُوطُ بِأَنْ يُصِيبَ ذَنْبًا فَيَرَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ مَعَهُ عَمَلٌ فَيَنْهَمِكُ فِي الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: إنْفَاقُ الْخَبِيثِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ؛ وَمَا مَرَّ فِي قِصَّةِ أَبِي أَيُّوبَ رَوَاهَا بِنَحْوِهَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ وَلَفْظُهُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: «كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ، فَأَمَّرُوا عَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ. فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ بَيْنَهُمْ فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِي بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذَا التَّأْوِيلَ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا وَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ مَا يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا وَلِلْفُقَرَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ١٩٥] فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَصَلَاحِهَا وَتَرْكَ الْغَزْوِ، فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ» .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ: «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَغِبْتُمْ بِالزَّرْعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute