للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَفْضَلُ لِأَنَّهُ مَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ وَوُرَّاثِهِمْ وَلَا يُخَصُّونَ إلَّا بِالْأَكْمَلِ، وَلِأَنَّ نَفْعَهُ مُتَعَدٍّ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، وَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ فَالْإِسْرَارُ أَفْضَلُ.

وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يُحْمَلُ إطْلَاقُ مَنْ أَطْلَقَ أَفْضَلِيَّةَ الْإِسْرَارِ.

نَعَمْ مَرْتَبَةُ الْإِظْهَارِ الْفَاضِلِ مَزَلَّةُ قَدَمٍ لِلْعِبَادِ وَالْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ يَتَشَبَّهُونَ بِالْأَقْوِيَاءِ فِي الْإِظْهَارِ وَلَا تَقْوَى قُلُوبُهُمْ عَلَى الْإِخْلَاصِ فَتَحْبَطُ أُجُورُهُمْ بِالرِّيَاءِ، وَالتَّفَطُّنُ لِذَلِكَ غَامِضٌ وَعَلَامَةُ الْحَقِّ فِيهِ أَنَّ مَنْ قَامَ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ غَيْرَهُ لَوْ قَامَ بِهِ مِثْلُهُ مِنْ أَقْرَانِهِ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ كَانَ مُخْلِصًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ كَانَ مُرَائِيًا، إذْ لَوْلَا مُلَاحَظَةُ نَظَرِهِ لِلْخَلْقِ لَمَا آثَرَ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكِفَايَةِ غَيْرِهِ، فَلْيَحْذَرْ الْعَبْدُ خُدَعَ النَّفْسِ فَإِنَّهَا خَدُوعٌ، وَالشَّيْطَانُ مُتَرَصِّدٌ، وَحُبُّ الْجَاهِ عَلَى الْقَلْبِ غَالِبٌ وَقَلَّمَا تَسْلَمُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ عَنْ الْآفَاتِ وَالْأَخْطَارِ.

فَالسَّلَامَةُ الْإِخْفَاءُ، وَمِنْ الْإِظْهَارِ التَّحَدُّثُ بِالْعَمَلِ بَعْدَ فَرَاغِهِ، بَلْ هَذَا أَشَدُّ خَطَرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ زِيَادَةٌ أَوْ مُبَالَغَةٌ وَلِلنَّفْسِ لَذَّةٌ فِي إظْهَارِ الدَّعَاوَى، وَأَهْوَنُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرِّيَاءَ بِهِ لَا يُحْبِطُ مَا مَضَى خَالِصًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرِينَ رُبَّمَا يَتْرُكُونَ الطَّاعَاتِ خَوْفَ الرِّيَاءِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْمُودٍ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ إمَّا لَازِمَةٌ لِلْبَدَنِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْغَيْرِ وَلَا لَذَّةَ فِي عَيْنِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ بَاعِثُ الِابْتِدَاءِ فِيهَا رُؤْيَةَ النَّاسِ وَحْدَهَا فَهَذَا مَحْضُ مَعْصِيَةٍ فَيَجِبُ تَرْكُهُ وَلَا رُخْصَةَ فِيهَا عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لَكِنْ عَرَضَ الرِّيَاءُ عِنْدَ عَقْدِهَا شَرَعَ فِيهَا وَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي دَفْعِ ذَلِكَ الْعَارِضِ، وَكَذَا لَوْ عَرَضَ فِي أَثْنَائِهَا فَيَرُدُّ نَفْسَهُ لِلْإِخْلَاصِ قَهْرًا حَتَّى يُتِمَّهَا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْعُوك أَوَّلًا إلَى التَّرْكِ، فَإِذَا عَصَيْتَهُ وَعَزَمْتَ وَشَرَعْتَ دَعَاك لِلرِّيَاءِ، فَإِذَا أَعْرَضْتَ عَنْهُ وَجَاهَدْتَهُ إلَى أَنْ فَرَغْتَ نَدَمَكَ حِينَئِذٍ، وَقَالَ: لَك أَنْتَ مُرَاءٍ، وَلَا يَنْفَعُك اللَّهُ بِهَذَا الْعَمَلِ شَيْئًا حَتَّى تَتْرُكَ الْعَوْدَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ فَيَحْصُلَ غَرَضُهُ مِنْك فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ فَإِنَّهُ لَا أَمْكَرَ مِنْهُ، وَأَلْزِمْ قَلْبَك الْحَيَاءَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذْ أَوْجَدَ فِيك بَاعِثًا دِينِيًّا عَلَى الْعَمَلِ فَلَمْ تَتْرُكْهُ بَلْ جَاهَدْتَ نَفْسَك فِي الْإِخْلَاصِ فِيهِ وَلَمْ تَغْتَرَّ بِمَكَائِدِ عَدُوِّك وَعَدُوِّ أَبِيك آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَإِمَّا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَلْقِ وَهَذِهِ تَعْظُمُ فِيهَا الْآفَاتُ وَالْأَخْطَارُ فَأَعْظَمُهَا الْخِلَافَةُ، ثُمَّ الْقَضَاءُ، ثُمَّ التَّذْكِيرُ وَالتَّدْرِيسُ وَالْإِفْتَاءُ، ثُمَّ إنْفَاقُ الْمَالِ فَمَنْ لَا تَسْتَمِيلُهُ الدُّنْيَا وَلَا يَسْتَفِزُّهُ الطَّمَعُ وَلَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَأَعْرَضَ عَنْ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا جُمْلَةً وَلَا يَتَحَرَّكُ إلَّا لِلْحَقِّ وَلَا يَسْكُنُ إلَّا لَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>