للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقُدْرَةَ عَلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَإِنْ غَضِبَ عَلَى مَنْ قُوَّتُهُ أَشَدُّ مِنْ قُوَّتِهِ وَكَانَ مَعَهُ يَأْسٌ مِنْ الِانْتِقَامِ انْقَبَضَ دَمُهُ مِنْ ظَاهِرِ جِلْدِهِ إلَى جَوْفِ قَلْبِهِ وَصَارَ خَوْفًا فَيَصْفَرُّ لَوْنُهُ، أَوْ مَنْ مُسَاوِيهِ وَشَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُ تَرَدَّدَ دَمُهُ بَيْنَ الِانْقِبَاضِ وَالِانْبِسَاطِ فَيَحْمَرُّ وَيَصْفَرُّ وَيَضْطَرِبُ؛ فَعُلِمَ أَنَّ قُوَّةَ الْغَضَبِ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ وَأَنَّ مَعْنَاهَا غَلَيَانُ دَمِهِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْقُوَّةَ إنَّمَا تَتَوَجَّهُ عِنْدَ ثَوَرَانِهَا إلَى دَفْعِ مُؤْذٍ قَبْلَ وُقُوعِهِ، أَوْ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ بَعْدَهُ. فَالِانْتِقَامُ هُوَ لَذَّتُهَا وَمُمْسِكُهَا، ثُمَّ إنَّ التَّفْرِيطَ فِيهَا بِانْعِدَامِهَا أَوْ ضَعْفِهَا مَذْمُومٌ جِدًّا لِانْعِدَامِ الْحَمِيَّةِ وَالْغَيْرَةِ حِينَئِذٍ، وَمَنْ لَا غَيْرَةَ لَهُ وَلَا مُرُوءَةَ لَا يَتَأَهَّلُ لِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَمَالِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ بِالنِّسَاءِ بَلْ بِحَشَرَاتِ الْحَيَوَانِ أَشْبَهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ اُسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ، وَمَنْ اُسْتُرْضِيَ فَلَمْ يَرْضَ فَهُوَ شَيْطَانٌ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بِالشِّدَّةِ وَالْحَمِيَّةِ فَقَالَ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: ٥٤] {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: ٢٩] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: ٧٣] وَثَمَرَةُ التَّفْرِيطِ فِي ذَلِكَ قِلَّةُ الْأَنَفَةِ مِمَّا يُؤْنَفُ مِنْهُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْحَرَمِ كَالْأُخْتِ وَالزَّوْجَةِ، وَاحْتِمَالِ الذُّلِّ مِنْ الْأَخِسَّاءِ، وَصِغَرِ النَّفْسِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا قَبَائِحُ وَمَذَامُّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ثَمَرَاتِهَا إلَّا قِلَّةُ الْغَيْرَةِ وَخُنُوثَةُ الطَّبْعِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ أَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي وَمِنْ غَيْرَتِهِ أَنْ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ» .

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ: «لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ» .

وَالْبَيْهَقِيُّ: «إنَّ الْغَيْرَةَ مِنْ الْإِيمَانِ» .

وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ: «إنَّ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، وَإِنَّ مِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ. وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ. وَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي الْقِتَالِ وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي الْبَغْيِ وَالْفَخْرِ» .

<<  <  ج: ص:  >  >>