قبل الولوج في لُبِّ هذا البحث ينبغي أن نعلم أن دليل الإجماع من أهم الأدلة عند علماء أهل السُّنة، «وعليه مَدَارُ مُعظمِ الأحكَامِ في الفَرْقِ والجَمْعِ، وإليه استنادُ المقاييسِ والعِبَرِ، وبه اعتضَادُ الاستِنبَاطِ في طُرُقِ الفِكَرِ»(١).
وتتجلى تلك الأهمية للإجماع عند النظر إلى كثير من أدلة الكتاب والسنة التي إذا أوردت في كثير من المسائل يعترض عليها كثير من المخالفين؛ بأنها ليست قطيعة في دلالتها بل تحتمل كذا وكذا ... ويأخذون في تنويع المشارب وتعديد المذاهب؛ لذا كان من أنفع ما يحفظ عقيدة ومنهج أهل السنة: هو فهم السلف في الإفهام والتفهيم، والأخذ والرد، والنفي والإثبات، والتأصيل والتقعيد ... وما إلى ذلك.
وفهم السلف: صورة من صور الإجماع؛ لذا ضبط الإجماع مهم للغاية وكذا الاعتناء به؛ حتى يُحفظ معتقد أهل السنة ويُصان عن تلك الهالة المسماة «قطعي وظني الدلالة»، تلك الهالة التي قَلَبَتِ الإسلامَ رأسًا على عقب وظهرًا لبطنٍ، حيث يردُّ أولئك المتكلمون كثيرًا من الأدلة الظاهرة الواضحة بزعمهم أنها ليست قطعيةً في دلالتها أو أنَّها ظنيَّةٌ في ثبوتيَّتِها.
وليس معنى هذا أننا ننكر ما اصطُلح عليه بـ «قطعي الدلالة وظني الدلالة»، وإنما هو إيراد في مقام الرد على المتكلمين الذين ردوا الأدلة بحجة أنها ظنية في دلالتها أو ظنية في ثبوتها، - فمثلًا - يرد المتكلمون خبر الآحاد بحجة أنه ليس قطعيًا في ثبوته، فإذا أتيتَ لهم بالقطعي في ثبوته كالخبر المتواتر من السنة النبوية أو من القرآن: أثارَ أولئك القوم زوبعتَهم ليشككوا في دلالته، ومن ثَمَّ يرفضون الاحتجاج به ... وهكذا هو دأبهم.