ومنها: أن يذكر قولين، ثم يدل على تصحيح مذهبه منهما بأن يقول: " هذا أشبه وأقرب إلى الصواب "، أو يُفسِد الآخر، ويقول: " هو مدخول فيه، أو منكسر "،
فيبين أن مذهبه هو الآخر، أو يُفَرَّع على أحدهما، ويترك الآخر، فيعلم أنه هو المذهب.
فما كان منه على هذه الوجوه لا اعتراض عليه فيه؛ لأنه لم يجمعْ بين القولين في الاختيار فينسب إلى أنه اعتقد قولين متضادين في مسألة واحدة، ولا تَوَقَّفَ عن القطع بأحدهما، فيقال: إنه عجز عن إدراك الحق.
فإن قيل: إن كان مذهبه أحد القولين على ما ذكرتم، فما الفائدة في ذكر القولين؟
قلنا: إنما ذكر ذلك ليعلِّم أصحابه طرق العلل واستخراجها، والتمييز بين الصحيح من الفاسد من الأقاويل، وهذه فائدة كبيرة، وغرض صحيح.
وقد يكون من ذلك ما ينص فيه على قولين، ولا يبين مذهبه منهما.
قال القاضي أبو حامد: " ولا نعرف له ما هذا سبيله إلا في ست عشرة مسألة، أو سبع عشرة مسألة ".
فهذا أيضًا لا اعتراض عليه فيه، لأنه لم يذكرهما على أنه مُعْتقِد لهما، وكيف يقال هذا وهما قولان منصوصان.
وإنما ذكرهما؛ لأن الحادثة تحتمل عنده هذين القولين،
ولم يرجحْ بعد أحدهما على الآخر، فذكرهما ليطلب منهما الصواب فأدركه الموت قبل البيان، وليس في ذلك نقض على المجتهد، بل يدلك ذلك على غزارة علمه، وكمال فضله حين تزاحمت عنده الأصول، وترادفت الشبه حتى احتاج إلى التوقيف إلى أن ينكشف له وجه الصواب منهما فيحكم به.
فإن فيل: إذا لم يَبِنْ له الحق من القولين، ولم يكن مذهبه القولين، فما الفائدة في ذكر القولين؟
قلنا: فائدته أن الحق في واحد من هذين القولين غير خارج منهما، وأن ما عداهما من الأقاويل باطل، وفي ذلك فائدة كثيرة، وغرض صحيح.
ولهذا جعل أمير المؤمنين - رحمه الله - الأمر شورى في ستة، ولم ينص على واحد بعينه ليبين أن الإمامة لا تخرج منهم، ولا تطلب من غيرهم، فكذلك ها هنا.