النظرية الثالثة: نظرية الفَهْم:
يجيء بعد ذلك دور النظرية الثالثة، وهي نظرية الفهم، وكيف نفهم القرآن
(الحجة / الثابت لدينا) فنحن أمام نص اعتبرناه حجة، ثم أثبتناه بطريق يطمئن إليها العلماء طبقا لمنهج علمي مستوفٍ لشروطه.
ولقد وضع الأصوليون لذلك أدوات تحليل، وفهم للنص مستمدين هذا من مجموع اللغة، وقواعدها، ومفرداتها، وخصائصها من ناحية.
وكذلك من مجموع الأحكام الفقهية المنقولة، والشائعة من ناحية أخرى.
والحاصل: أن هذه المرحلة في بناء أصول الفقه مرحلة مهمة للغاية، وتمثل لبنة من لبنات الأصول بغض النظر عن اختلاف المجتهدين، والمدارس الفقهية في بناء تلك الأدوات.
* * *
[النظرية الرابعة: القطعية والظنية:]
وإذ قد تم تحديد المَصْدر، وحجته، وإثباته، وفهمه، واجهت الفقهاء مشكلة القطعية والظنية، حيث إن الاكتفاء بهذه الأدوات يجعل مساحة القطعي أقل مما ينبغي، مما أوجد مشكلة حقيقية، استوجبت القول بالإجماع كدليل يوسِّع من مساحة القطعي، ويخرج ظني الدلالة من ظنيته إلى إطار القطع.
فالأدوات اللغوية وحدها لا تكفي لتفسير قوله تعالى ( ... إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) .
حيث الفاء للتعقيب بما يمكن أن يفيد أن الوضوء
بعد الصلاة.
أي: إذا ادعى مُدَّعٍ هذا، لم يكن لدينا بمحض الأدوات اللغوية ما يمكن إيقافه، ومن هنا كان لا بد من الاعتماد على الإجماع الذي يخرج المسألة من دور الظنية إلى القطعية، بحيث لا يمكن في ظل هذا النسق المتضمِّن للإجماع أن يقال: إن الوضوء بعد الصلاة.
وفهم قضية الإجماع في هذا الإطار يُحَرِّر كثيرًا من الخلاف حول المسألة، ويجعل كلام المؤيدين ذا معنى واضح، وفائدة مَرجوة.
ونظرية القطعية والظنية هذه سيكون لها أكبر الأثر في قضايا الخلاف الفقهي،
ومسألة الاجتهاد والإفتاء.