وهكذا كان تدربيه لأصحابه على الفقه، وتمرينه على مدارج التفقه، فمثله يكون كثير الذكر للاحتمالات في المسائل، وقد يترجح عند هذا ما لا يترجح عند ذاك من أصحابه، فيكون هو مثير أغلب تلك الاحتمالات، فمعظم تلك المسائل الخلافية من
تذكير الإمام لأصحابه، فلا يكون مانع من إطلاق المذهب الحنفي على مسائل أبي يوسف، ومحمد أيضًا بملاحظة حال معظمها.
وعن أبي يوسف قال:"كان أبو حنيفة إذا وردت عليه المسألة قال: ما عندكم فيها من الآثار، فإذا روينا الآثار، وذكرنا، وذكر هو ما عنده، نظر فإن كانت الآثار في أحد القولين، أكثر أخذ بالأكثر، فإذا تقاربت، وتكافأت؟ نظر فاختار ".
وهو الذي كان يقول لأصحابه:" لا يحل لأحد أن يقول بقولي ما لم يعلم من أين قلت ".
وهذه الطريقة هي التي ملأت الآفاق فقهًا وغوصًا، ولم تكن صدور الفقهاء من غير هؤلاء تتسع للأخذ والرد المتواصلين في المسائل هكذا، بل كان أغلبهم يكتفون بإملاء من عندهم، بدون مناقشة في الغالب، مقتصرين في الإجابة على النوازل والوقائع، إلا أن الشافعي كان ارتوى من المعينين الحجازية، والعراقية، فكان يتلقى الأخذ والرد
بصدر رحب، فملأ العالم بالمسائل التقديرية، وخدم نضوج الفقه، كافأ اللَّه الجميع على جميلهم في خدمة الفقه، ورضي عنهم أجمعين، ولكل وجهة.
* * *
[المذهب الحنفي والشورى الجماعية:]
ويؤكد ما سبق من الصبغة الجماعية للمذهب الحنفي العديد من الوقائع التي تبرز هذه الناحية، بالإضافة إلى ما امتازت به الكوفة رواج العلوم ومحرة العلماء؛ فعن أنس ابن سيرين أنه قال:" أتيت الكوفة، فرأيت فيها أربعة آلاف يطلبون الحديث، وأربعمائة قد فقهوا ".
وبهذا يعلم مبلغ أهمية الكوفة في الحديث والفقه والقراءة والعريية ووجه توارث علومهم جماعة عن جماعة إلى أقدم نبع فياض، وفي هذه البيئة كان المجمع الفقهي الذي يتكون من أربعين عالماً يرأسهم أبو حنيفة في تحقيق المسائل، وتدوينها بعد تمحيصها بالدلائل، وكان هذا مما امتازت به الكوفة.
قال ابن أبي العوام: حدثني الطحاوي كتب إليَّ ابن أبي ثور قال: أخبرني نوح أبو سفيان قال لي المغيرة بن حمزة: " كان أصحاب أبي حنيفة الذين دونوا معه الكتب