وعن أبي يوسف قال: كنت أطلب الحديث والفقه، وأنا مُقِلّ، رث الحال، فجاء أبي يوما - وأنا عند أبي حنيفة - فانصرفت معه فقال: يا بني لا تمدن رجلك مع أبي حنيفة، فإن أبا حنيفة خبزه مشوي، وأنت تحتاج إلى المعاش.
فقصرت عن كثير من الطلب، وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة، وسأل عني، فجعلت أتعاهد مجلسه، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه، قال لي: ما شغلك عنا؟.
قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي.
فجلست فلما انصرف الناس دفع إلى صرة، وقال: استمتع بهذه، فنظرت فإذا فيها مائة درهم، فقال لي: الزم الحلقة، وإذا
نفدت هذه فأعلمني.
فلزمت الحلقة، فلما مضت مدة يسيرة دفع إلى مائة أخرى، ثم
كان يتعاهدني، وما أعلمته بخلة قط، ولا أخبرته بنفاد شيء، وكان كأنه يخبر بنفادها حتى استغنيت، وتمولت.
وكان أبو يوسف شديد الملازمة لأبي حنيفة، حتى روى محمد بن قدامة عن شجاع ابن مخلد أنه سمع أبا يوسف يقول: مات ابن لي فلم أحضر جهازه، ولا دفنه، وتركته على جيراني، وأقربائي مخافة أن يفوتني من أبي حنيفة شيء لا تذهب حسرته عني.
وكان أبو يوسف عظيم الإجلال لشيخيه: ابن أبي ليلى، وأبي حنيفة، كبير البر لهما فبذلك نال بركة العلم.
* *
[شيوخه:]
نشأ أبو يوسف في العلم في تلك البيئة الممتازة (التي يأتي بيانها تحت عنوان المذهب الحنفي، والشورى الجماعية) تحت إشراف مثل أبي حنيفة البارع في التفقيه، فصقل عقله، واتسع أفق فقهه، وأثمرت مواهبه، وظهرت مآثره - بتوفيق اللَّه جل شأنه -
على أن شيخه الآخر في الفقه محمد بن أبي ليلى القاضي طال أمد قضائه في الدولتين الأموية والعباسية، حيث لم يمكن استغناؤهما - على تنافسهما - عن خبرته الواسعة في القضاء على طريقة قضاء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقضاء شريح الممتد من عهد عمر - رضي الله عنه - إلى زمن الحجاج، فازداد أبو يوسف علما وعملا بأحكام القضاء بما تلقاه من ابن