والتقسيم الثاني يمكن قبوله لولا أنه اعتبر عصر النص عصر النشأة للفقه، وفي هذا عندي نظر، والذي أميل إليه وأراه أقرب إلى مفهوم الفقه وحقيقته، هو أن للفقه دورين أساسيين يمكن أن نضيف إليهما دورًا ثالثًا بشيء من التجوز.
فالدور الأول: هو دور النص والتشريع، وهو دور تأسيس، وبناء مصادر الفقه، ونظرياته العامة على حد تعابير المعاصرين، وهي فترة عصر النبوة فقط.
والدور الثاني: هو دور إنتاج الفقه وبنائه، وهو دور بدأ بوفاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وبداية عصر الراشدين، وانتهى بوفاة آخر مجتهد مطلق، وهو ابن جرير الطبري المتوفي سنة (٣١٠ هـ) .
وهي مرحلة الاجتهاد الفقهي، والبناء، والتدوين، والتكوين التام،
ويمكن تقسيمها إلى فترات داخلية، ولكن الضابط المميز لها كلها أنها مرحلة اجتهاد فلم يخلو عقد من سنينه من المجتهدين.
أما الدور الثالث: فهو دور توقف الاجتهاد، وجمود الفقه، واللجوء إلى التقليد، والتمذهب الفقهي، وهو دور بدأ منذ القرن الرابع، ولا يزال قائمًا حتى يومنا هذا ".
ونرى أن أدوار الفقه يمكن أن نقسمها إلى أربعة أدوار هي:
* * *
[الدور الأول]
عصر الصحابة رضوان اللَّه عليهم والتابعين، فقد انقضى عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تم فيه التشريع الإلهي في الكتاب والسنة، وهما الأصلان العطمان اللذان خلفهما هذا العصر للذي تلاه، ولجميع العصور اللاحقة به.
وقد بدأ الفقه بالنمو والاتساع في هذا الدور، ذلك أن الفقهاء بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - واجهوا وقائع وأحداثًا ما كان لهم بها عهد أيام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان لا بد من معرفة حكم
اللَّه تعالى فيها.
كما أن الحروب التي وقعت وما نتج عنها من قضايا وعلاقات بين المسلمين وبين غيرهم في أثناء الحرب وبعدها أدت إلى كثرة المسائل الفقهية.
والفتوحات الإسلامية وما ترتب عليها من امتداد، واتساع رقعة الدولة الإسلامية، واتصال المسلمين بأهل تلك البلاد، ولكل بلد أعرافه، وعاداته، وتقاليده، ونظمه.
كل ذلك أدى إلى ظهور مسائل وقضايا جديدة تستلزم معرفة حكم الشرع فيها،
وقد قام فقهاء الصحابة والتابعين بمهمة التعرف على أحكام هذه المسائل، والوقائع