والإجماع، والقياس، وكل واحد منهم له قول مستقل غير قول الآخر في المسألة الواحدة الشرعية، وكيف تسمون هذه المذاهب الثلاثة مذهبًا واحدًا، وتقولون: إن الكل مذهب أبي حنيفة، وتقولون عن الذي يقلد أبا يوسف في مذهبه، أو محمدًا أنه حنفي، وإنما الحنفي من قلد أبا حنيفة فقط فيما ذهب إليه؟.
وأجاب عن هذا السؤال الشيخ عبد الغني النابلسي من فقهاء الحنفية في عصره برسالة سماها:(الجواب الشريف للحضرة الشريفة في أن مذهب أبي يوسف ومحمد هو مذهب أبي حنيفة) ارتأى فيها ما خلاصته: أن آراءهما روايات عن أبي حنيفة فتكون أقوالهما من أقوال أبي حنيفة، فيكون عدها في مذهب أبي حنيفة صحيحًا،
واستند في ذلك إلى أقوال مروية عن الإمامين في ذلك.
يقول الكوثري: وليس هذا بجيد، وإن ارتضاه ابن عابدين؛ لأن ذلك تعويل على ما يقوله ابن الكمال الوزير في طبقات الفقهاء من أنهما لا يخالفان الإمام في الأصول، وهذا خلاف الواقع، بل هما يخالفانه في كثير من المسائل الأصلية والفرعية عن دليل كما هو شأن الاجتهاد المطلق، وإنزالهما إلى مرتبة المجتهد في المذهب ينافي الحقيقة، وإنْ حافظا على انتسابهما له - رحمه الله -.
بل إطلاق المذهب الحنفي على مجموع آراء هؤلاء اصطلاح ولا مشاحة فيه، بالنظر إلى أن مذهب أبي حنيفة فقه جماعة عن جماعة.
ومصدر كل رأي من تلك الآراء مجتهد مطلق يتابع دليل نفسه، فالإمامان وافقاه فيما علما فيه دليل الحكم كما علم هو، اجتهادًا لا تقليدًا له، كما خالفاه فيما بان الدليل لهما على خلاف رأيه، فالتوافق بينهم في الرأي لا يدل على التقليد، بل يدل
على معرفة البعض دليل الحكم كمعرفة الآخرين، وإلا ما بقى في الوجود مجتهد مطلق لتوافق المجتهدين في معظم المسائل.
ومنشأ ادعاء أن تلك الأقوال كلها أقوال أبي حنيفة: هو ما كان يجري عليه أبو حنيفة في تفقيه أصحابه من احتجاجه لأحد الأحكام المحتملة في مسألة، وانتصاره له بأدلة، ثم كروره بالرد عليه بنقض أدلته، وبترجيحه الاحتمال الثاني بأدلة أخرى، ثم نقضها بترجيح احتمال ثالث بأدلة تدريبًا لأصحابه على التفقه على خطوات ومراحل،
إلى أن يستقر الحكم المتعين في نهاية التمحيص، ويدون في الديوان في عداد المسائل