المخاطبُ بجوازه وما لا يقطع، لأن خبر الثقة الأمين غالبٌ صدقُه في الحالين، وحفظُ المصلحة غالبٌ في الأخذ بظاهر خبره في النوعين. فأما إذا ثبت عقلًا أن المخبِر معصوم عن الجهل والغلط وعن الكذب والتلبيس، فوجوبُ قبول خبره بغاية الوضوح، بل إذا قطَع عقلُ المخاطب بعصمة المخبر عما ذُكِر، وقطَعَ بأن ظاهر خبره هذا هو المعنى، وبأنه لا قرينة صحيحة تَصرِف عنه= فإنه يقطع عقلُه بوقوع ذاك المعنى، وإن كان قبل ذلك يجوِّز امتناعه عقلًا.
وأما الشرع فظاهر، فقد طالب الأنبياءُ الناسَ أن يصدِّقوهم فيما يُخبرون به عن ربهم، وأن يوقنوا له بذلك (١)، وقضَوا بإيمان المصدِّق الموقِن ووالَوه، وبكفر الممتنع عن التصديق وعادَوه، مع أن مما أخبروا به وطالبوا الناس بالإيقان به ما كانت عقولُ المخاطبين تستبعده، وعقولُ الفلاسفة وبعضِ المتكلمين تُصوِّب ذاك الاستبعاد، وذلك كحشر الأجساد. بل مما أخبر به الأنبياءُ وطالبوا الناسَ بالإيقان به ما تزعم الفلاسفة أنه ممتنع عقلًا، ووافقهم المتكلِّمون على ما وافقوهم من ذلك.
وأما العمل، فلا يخفى على من تصفَّح أحوال الناس أنهم كانوا ولا يزالون ولن يزالوا يعتمدون على خبر الثقة الأمين فيما يقطعون فيه بعدم الامتناع وفيما لا يقطعون. واعتبِرْ ذلك بأخذهم بأخبار علماء الحساب والهندسة والمساحة ونحو ذلك من العلوم العقلية، وهكذا العقائد، فإن الناس يأخذونها من علمائهم تقليدًا في كثير منها، ويرضى منهم علماؤهم بذلك ويحضُّونهم عليه.
(١) كذا في الأصل، ولعل «له» مقحمة، والسياق مستقيم بدونها.