ولا شك أنه ليس المقصود من تقليل قيمة الدنيا أن نتركها بالكلية، وأن نعتكف في بيوتنا أو في مساجدنا تاركين أسباب القوة للكافرين، ليس هذا هو المقصود أبداً، إنما الزهد في الدنيا الذي نريده هو ألا نفرح بما في أيدينا فيلهينا عن شكر النعمة، ولا نحزن على فوات شيء يخرجنا عن الرضا بقضاء ربنا، الزهد الذي نريده هو ألا نخالف المنهج الرباني من أجل الدنيا ولو تعاظمت، الزهد الذي نريده هو ألا يتصارع الأخوان على شيء من حطام الدنيا، وألا تكون المنافسة بينهم إلا في أمور الآخرة:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطففين:٢٦].
الزهد الذي نريده هو أن نفرغ للآخرة أوقات كما فرغنا للدنيا أو يزيد، الزهد الذي نريده هو أن ننتصر على الشيطان فلا يوسوس لنا بأن الطريق الأمثل للجنة هو أعمال الدنيا فقط وأن العمل عبادة، فتجد الرجل يقضي معظم يومه منهمكاً في جمع الدنيا بحجة أنه في عبادة ولا يجد وقتاً لربه، ولا لنفسه، ولا لأبنائه وزوجته، ولا لوالديه، ولا لرحمه، ولا لمجتمعه، ولا لأمته.
الزهد الذي نريده أن نحصل على القوة فلا تطغينا، وأن نحصل على المال فلا يلهينا، الزهد الذي نريده أن نعطي الدنيا حجمها الصحيح ونُعطي الآخرة كذلك حجمها الصحيح.
روى الإمام مسلم رحمه الله عن المستورد بن شداد رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار راو الحديث إلى السبابة- في اليم فلينظر أحدكم بم يرجع؟) هذا هو حجم الدنيا في الآخرة، ما يرجع أحدكم بأصبعه من اليم فقط.
فهذا الزهد الذي تحدثنا عنه لا يحرمنا من عمارة الأرض ومن سياستها، ولا يحرمنا من أموالنا وأملاكنا ومتاعنا، ولكن فقط يقننها وفق قانون الله، ويحدها بحدود الله، ويصرفها فيما يرضي الله، ويمنعها عما يُغضب الله، هذا ما نريده، ولا نريد اعتكافاً عن المجتمع ولا انعزالاً عن الحياة.
من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نعيد ترتيب أوراقنا وتنظيم حياتنا وتعديل أهدافنا، من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نصلح أنفسنا ونعدّل من سلوكنا، من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نبني مجتمعنا وأوطاننا، من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نصطلح مع ربنا.
نعم يا إخوة! يطول الفراق أحياناً بيننا وبين ربنا، وهو سبحانه وتعالى لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة، أما نحن فيا ويلنا! إن عصيناه فيما زجر، ويا خسارتنا إن لم نطعه فيما أمر.