[الموقف العربي والفلسطيني من قرار التقسيم]
ترى ما هو الموقف في فلسطين بعد قرار التقسيم؟ تعالوا نحلل الأحداث ونستقي العبرة: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:١٧٦].
الشعوب العربية تغلي، والقرار ظالم، والحكم جائر، ولا بد من حركة أو رد فعل، ماذا نفعل؟ قامت الجامعة العربية الناشئة وأخذت قرارات توافقت مع رغبات الشعوب، قلنا: حمداً لله فقد تجمع المسلمون أخيراً، أو قل: تجمع العرب فالرابطة كانت قومية، أخذت الجامعة العربية القرارات الآتية: أولاً: أصدروا مذكرات شديدة اللهجة إلى أمريكا وإنجلترا.
ثانياً: إقامة معسكرات لتدريب المتطوعين في قطن بالقرب من دمشق بسوريا يدربون الفلسطينيين فيه على القتال.
ثالثاً: تكوين جيش عربي أُطلق عليه جيش الإنقاذ، وضعوا عليه رجلاً اسمه فوزي القوقجي.
رابعاً: رصد مليون جنيه لأغراض الدفاع عن فلسطين.
وقد كانت قرارات قوية بحق، وبدءوا بالفعل في تدريب الفلسطينيين في قطن بسوريا، وبدءوا في تكوين جيش الإنقاذ، ولكن جاءت رسالة من بريطانيا إلى الجامعة العربية قالت فيها: إن بريطانيا تعتبر تسليح الفلسطينيين وتدريبهم في قطن عملاً غير ودي، فاجتمعت الجامعة العربية وتشاورت وتحاورت، ولعلها استخارت، ثم صدر قرار غلق معسكر قطن، وتسريح المتطوعين هناك، وسحب أسلحة المعسكر، والاكتفاء بتزويد جيش الإنقاذ، ولكن تحديد العدد، فاتفقوا على أن يكون قوامه (٧٧٠٠) جندي مع مده ببعض الأسلحة الرديئة، أما الأموال فقد جُمع شيء قليل منها، أو قل: وصل إلى فلسطين شيء قليل منها.
إذاً: الجامعة العربية نفّست عن الشعوب المتحمسة بقرارات عنترية، ثم جاءت الأوامر الإنجليزية لتهدئ من روع المتحمسين، ولتلقي جالوناً من الماء البارد على الجامعة العربية؛ لتسكّن من حرارة الخطباء والمتكلمين.
ماذا كان الموقف في فلسطين؟ عاد المفتي أمين الحسيني رحمه الله من لبنان، وذكرنا من قبل أنه هرب إليها بعد مطاردة الإنجليز له، عاد إلى فلسطين وبدأ يقود الشعب إلى جهاد مسلح ضد اليهود، ومعه البطل عبد القادر الحسيني رحمه الله، واجتمع الناس على قيادة المفتي، وأراد المفتي أن يسعى إلى تأييد عربي، فأسرع إلى الكيان الجديد الجامعة العربية يعلن رغبته في تكوين حكومة فلسطينية وطنية تدعمها الجامعة العربية، ويكون المفتي على رأسها كما يريد الشعب هناك، وكان طلباً وجيهاً فلن تُحمى البلاد إلا بأهلها أساساً، لكن الجامعة العربية رفضت الطلب، ورفضت رئاسته دون تبرير واضح، بل إن الملك عبد الله ملك الأردن قال في لقاء مع ممثلة الوكالة اليهودية جولد مائير: إنه يعزم على أن يضم إلى مملكة الأردن الجزء المخصص للعرب في مشروع التقسيم، يعني: منطقة الضفة الغربية، ويعزم أيضاً على إقامة علاقات سلام وصداقة مع الدولة اليهودية، وختم كلامه بقوله: كلانا يواجه خصماً مشتركاً يقف عقبة في طريق خططنا، ذلك هو المفتي أمين الحسيني، وهذا كلام في منتهى الخطورة.
إذاً: النية كانت مبيتة على الموافقة على قرار التقسيم، والنية كانت مبيتة على الاعتراف بدولة اليهود، والنية كانت مبيتة لهضم الضفة الغربية داخل الأردن، والنية كانت مبيتة على تحجيم قوة المفتي والفلسطينيين، ولا أجد في الواقع في ألفاظ اللغة ما يناسب ذلك الموقف.
اليهود كعادتهم لن يضيعوا وقتاً، استغاثات ونداءات لأمريكا وإنجلترا ودول أخرى كثيرة، وانهمرت سفن الأسلحة من أمريكا وإنجلترا وأوروبا الشرقية، وتسارع الضباط من أمريكا وروسيا وتشيكوسلوفاكيا لتدريب اليهود على الأسلحة الجديدة، واستعدت العصابات اليهودية للقتال، وهي في مجموعها تبلغ كما ذكرنا (٧٠٠٠٠) جندي مسلح مدرب.
ما هو موقف الشعب الفلسطيني؟ سار الشعب بقيادة المفتي أمين الحسيني ومعه عبد القادر الحسيني رحمهما الله، وحمل السلاح وظهرت دعوة الجهاد بوضوح وجلاء، أما جيش الإنقاذ العربي بقيادة فوزي القوقجي كان جيشاً ضعيفاً جداً، وسلاحه ضعيف، وعدده قليل، ورفض التعاون مع المفتي ورجاله، حتى إن الدكتور عبد الله عزام رحمه الله كان يقول في تاريخه لهذه الفترة: إن فوزي القوقجي هذا كان رجلاً تحوم حوله الشبهات.
إذاً: الشعب الفلسطيني تحرك للجهاد بسلاح بدائي لكن بروح عالية، وهذه الروح العالية دفعته لتحقيق انتصارات مبدئية، فانتصر في بعض المواقع مثل ظهر الحجة وعين باهل وشعفاص والدهيشة، وذلك بقيادة عبد القادر الحسيني غالباً، لكن فارق التسليح كان مهولاً بين اليهود والفلسطينيين، وكادت الكفة تميل في صف اليهود، لولا أن من الله على فلسطين بحدث جديد، فقد حرك الجهاد مشاعر كثيرة في قلوب أعداد عظيمة من المسلمين، في بلاد إسلامية محيطة بفلسطين، وبالذات في مصر وسوريا فسارع الشباب والشيوخ على حد سواء إلى طلب حمل السلاح، والعبور إلى أرض الشرف والكرامة والمجد أرض فلسطين، وظهرت