[انتهاء الحرب العالمية الأولى وتقسيم الدولة العثمانية إثر ذلك]
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فخذه أخذ عزيز مقتدر، واجعل تدبيره تدميره، واجعل كيده في نحره؛ إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
أما بعد: فمع المحاضرة السادسة من المحاضرات المتعلقة بقضية فلسطين.
وفي الحلقتين السابقتين تحدثنا عن بزوغ فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وكان الداعي لها هو تيودور هرتزل الزعيم الصهيوني المعروف، وتحدثنا عن جهوده في هذا المجال، بدءاً من (مؤتمر بال)، ومروراً بالمباحثات التي تمت بينه وبين كل من إنجلترا وألمانيا وروسيا، والخلافة العثمانية.
وتعرضنا أيضاً لموقف السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله من مطامع اليهود، وكيف تصدى لها في ذكاء وإخلاص.
ثم أشرنا إلى أن اليهود قرروا إقصاء السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله عن الحكم، وتقويض أركان الخلافة، وكيف حاولوا اغتياله، وفشلت هذه المحاولات.
ثم كيف سلكوا سبيل التفريق بين المسلمين على أساس العنصر، وكيف ساهموا في إنشاء الجمعية العلمانية المعروفة بجمعية الاتحاد والترقي، ثم كيف أقصي بالفعل الخليفة الجبل عبد الحميد الثاني رحمه الله.
وتحدثنا أيضاً عن ظهور فكرة القومية العربية بإيعاز من اليهود والإنجليز أيضاً، وكيف ظهر الشريف حسين ينادي بمملكة للعرب، وذكرنا دخول الحرب العالمية الأولى وآثارها على المسلمين، وبالذات على فلسطين، وفصلنا في المعاهدة المشئومة معاهدة الشريف الحسين مع مكماهون الإنجليزي، وفيها يضرب الشريف حسين الخلافة العثمانية في ظهرها في مقابل وعد من إنجلترا بإقامة مملكة عربية يكون هو على رأسها.
ثم ذكرنا ما فعلته إنجلترا في معاهدة (سايكس بيكو)، وكيف خانت عهودها كالمعتاد، وفصلنا بعد ذلك في الكوارث التي حلت على المسلمين في سنة ١٩١٧م، وعددنا منها أربعاً: أولاً: وعد بلفور.
ثانياً: ظهور شخصية مصطفى كمال أتاتورك كقائد خائن لجيش العثمانيين في فلسطين.
ثالثاً: احتلال الإنجليز لفلسطين، وغفلة أهلها عن نوايا الإنجليز.
رابعاً: الثورة الشيوعية في روسيا، بما لها من آثار مدمرة.
واليوم نستكمل معاً التنقيب عن الأسباب التي أدت إلى تمكين شعب خسيس مهين -كشعب اليهود- من أرض طاهرة مقدسة -كأرض فلسطين- ونستكمل معاً التقليب في صفحات التاريخ، نستخرج من بينها أنواراً تضيء لنا طريق المستقبل، فليس في الدنيا أحداث جديدة، ما حدث منذ زمن آدم وإبليس إلى ما يحدث إلى يوم القيامة واحد لا يختلف، وثابت لا يتغير، فقط تختلف الأسماء والأماكن، لكن صلب الأحداث واحد.
ذلك أن لله سنناً لا تتغير ولا تتبدل، و {لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:٤٣].
اليوم نبدأ في الحديث من حيث انتهينا في المرة السابقة، فقد انتهت سنة ١٩١٧م، وقد حدثت فيها مصائب كثيرة كما نوهنا، وجاءت السنة التالية ١٩١٨م، وانتهت الحرب العالمية الأولى، وبدأت الأمور تتضح في المنطقة.
إنجلترا وفرنسا وأمريكا وروسيا انتصروا على ألمانيا والخلافة العثمانية، وبدءوا جميعاً يقتسمون -كما قالوا: تركة الرجل المريض- تركة الخلافة العثمانية، وبدأ الإنجليز والفرنسيون في تطبيق معاهدة (سايكس بيكو)، وتقسيم المملكة العربية التي وعدوا بها الشريف حسين، فأخذت إنجلترا الأردن والعراق، وأخذت فرنسا سوريا ولبنان.
كما طلبت إنجلترا من فرنسا إلغاء البند الخاص بفلسطين، حيث كان من المقرر أن تكون تحت حماية دولية مشتركة باستشارة روسيا، وأن تجعل فلسطين تحت الانتداب الإنجليزي فقط في مقابل أن تطلق إنجلترا يد فرنسا في الجزائر وتونس، ووافق الفرنسيون على ذلك، وأصبحت فلسطين محتلة رسمياً من الإنجليز، ولكي يستقر الوضع في فلسطين أعلنت إنجلترا أنها لا تحتل البلاد، ولكن فقط تجعل عليها انتداباً وإشرافاً إلى أجل، وهذا الأجل جعلته ثلاثين عاماً، فينتهي الانتداب الإنجليزي على فلسطين في الرابع عشر من مايو سنة ١٩٤٨م.
ولكي تسهل إنجلترا مهمتها في تسليم فلسطين لليهود لم تجعل على فلسطين حاكماً منها كما كان معتاداً في مثل هذه الظروف، فإنجلترا كانت تحتل مصر مثلاً، وكان هناك خديوي أو ملك في الواجهة، وكذلك في غيرها من