[علاقة احتلال فلسطين باحتلال الأندلس]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإنه في يوم ٢/ربيع الأول/ ٨٩٧هـ الموافق ٢/ ١/١٤٩٢م، وقع أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك الأندلس من المسلمين معاهدة الاستسلام، وذلك بعد قتل انتفاضة المسلمين التي قامت في ربوع غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وخرج أبو عبد الله الصغير من مدينة غرناطة، ووقف على تل من التلال القريبة من قصر الحمراء -قصر الحكم في غرناطة- وهو يبكي وينتحب، قالت له أمه عائشة الحرة: أجل! فلتبك كالنساء ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال.
وخرج المسلمون بذلك خروجاً نهائياً من الأندلس بعد أن حكمت بالإسلام ثمانية قرون، غير أن الأيام تحمل معها مفاجآت كثيرة، فتلك البلاد التي حكمت بالإسلام هذه المدة الطويلة لا يعيش فيها الآن من المسلمين إلا حوالي مائة ألف مسلم فقط، وهي بذلك تكون من أقل دول العالم احتضاناً للمسلمين، وهو درس لا بد أن يفقهه المسلمون.
وكأني ألحظ في وجوه الحاضرين دهشة وتساؤلات، أشعر أن الزملاء يقولون: يا دكتور! أنت نسيت مجموعة المحاضرات الخاصة بفلسطين وإلا ماذا؟ ما هي حكاية الكلام عن الأندلس؟ أبداً والله لم أنس، ولن أنسى قضية فلسطين، ولكن العلاقة وثيقة جداً بين قضية فلسطين الحالية وبين الأندلس الماضية.
من جديد ألحظ دهشة في العيون تظهر -سبحان الله- مع تباعد الزمان، وتباعد المكان، فإن العلاقة وثيقة بين الأندلس وبين فلسطين!! نعم، وثيقة وسنرى الرباط بينهما بعد قليل.
ملحوظة في غاية الأهمية لتاريخ الأندلس، لماذا لم يعد للإسلام ذكر في هذه البلاد إلا من آثار قديمة، وبعض المساجد التي حولت إلى كنائس، بينما احتلت بلاد إسلامية كثيرة غير بلاد الأندلس، ومع ذلك لم يخرج منها الإسلام، احتلت مصر والجزائر وسوريا والسودان وليبيا والعراق، ومعظم بلاد العالم الإسلامي، لكن البلاد ما زالت مسلمة بعد الاحتلال الطويل، أما أسبانيا فالوضع فيها مختلف، لماذا؟ ذلك أن الاحتلال الأسباني للممالك الإسلامية في الأندلس كان احتلالاً استيطانياً إحلالياً سرطانياً، بمعنى: أن الأسبان ما كانوا يدخلون مدينة إسلامية إلا ويقتلون أهلها جميعاً، مذابح جماعية في كل مكان، أو يطردونهم خارج البلاد، وهكذا مع الوقت يتحول سكان البلد المسلمون إلى شهداء أو لاجئين، ثم يأتون بالأسبان من كل مكان يستوطنون هذه البلاد، وهكذا مع مرور الوقت أصبح سكان الأندلس كلهم من الأسبان، وليسوا من المسلمين، واختفى المسلمون بالكلية من ساحة الأندلس.
يا ترى كيف كان حال المسلمين حول بلاد الأندلس في البلاد المجاورة في تونس، في الجزائر، في المغرب، في مصر، في الشام؟ كيف كان حال المسلمين وقت سقوط الأندلس؟ كان المسلمون في فرقة شديدة وضعف، ولاشك أنهم فكروا مع هذا الضعف في استعادة بلاد الأندلس، ولكنهم لم يستطيعوا هذا؛ لضعف قوتهم، ومن المؤكد أن اللاجئين الذين خرجوا من بلاد الأندلس بعد السقوط فكروا يوماً ما في العودة، ولكن لم يستطيعوا؛ لضعف إمكانياتهم وقلة حيلتهم، وهكذا مر شهر وشهران، وعام وعامان، وقرن وقرنان، بل خمسة قرون، وضاعت الأندلس -أسبانيا والبرتغال- من ذاكرة المسلمين.
من من المسلمين الآن يفكر في استعادة بلاد الأندلس؟ الأندلس الآن عبارة عن دولتين، تربطهما مع كل بلاد المسلمين علاقات حميمة، كان المؤرخون قديماً عندما يتحدثون عن الأندلس بعد سقوطها يقولون: أعادها الله للمسلمين، كما يتحدث مؤرخ فيقول: فتح طارق بن زياد رحمه الله بلاد الأندلس -أعادها الله للمسلمين- في سنة ٩٢هـ؛ ذلك لأنها كانت دائماً في الذاكرة، أما مع تقادم العهد فقد اختفت كلمة: أعادها الله للمسلمين، اختفت من أفواه المؤرخين.
انظروا إلى زيارة قام بها سفير مغربي للأندلس بعد سقوطها بأكثر من مائة عام، هذا السفير اسمه الغزال الفاسي رحمه الله، سفير سلطان المغرب إلى ملك أسبانيا كارلوس الثالث، زار في هذه السفارة مسجد قرطبة الجامع العظيم، فقال عنه: وهو من أعظم مساجد الدنيا في الطول والعرض والعلو، ومنذ عبرنا هذا المسجد لم تفتر لنا عبرة مما شهدنا من عظمته، وتذكرنا ما كان عليه في عهد الإسلام، وما قرئ فيه من العلوم وتليت فيه من الآيات، وأقيمت به من الصلوات، وقد تخيل في الفكر أن حيطان