للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[محاولات ثيودور هرتزل لإقناع دول عظمى أخرى في إنشاء دولة لليهود في فلسطين]

كانت الدولة الثانية الكبرى العظمى في ذلك الزمن ألمانيا، وكانت على خلاف عميق مع إنجلترا، وبعد قليل كما تعلمون ستقوم الحرب العالمية الأولى، وستكون ألمانيا في فريق، وإنجلترا في فريق آخر، ومع ذلك ذهب تيودور هرتزل إلى ألمانيا يطلب منهم أن يساعدوهم في إنشاء دولة يهودية في فلسطين.

سبحان الله! يتصرف في ناحيتين، يتكلم مع إنجلترا ومع عدو إنجلترا، والذي ينجح أولاً في تحريك القضية هو الذي يسير معه تيودور هرتزل، لا يوجد لهذا الرجل أي مبادئ، كل ما يحكمه فقط المصالح، وقد استغل تيودور هرتزل العلاقات الطيبة بين ألمانيا في ذلك الوقت وبين الدولة العثمانية، وعرض على الألمان أن يساعدوه في إنشاء الدولة اليهودية، وقابل قيصر ألمانيا في فلسطين، فقيصر ألمانيا كان يزور فلسطين، فذهب تيودور هرتزل إلى فلسطين وقابل قيصر ألمانيا، وعرض عليه الفكرة، لكن لم يجد حماساً كافياً من قيصر ألمانيا؛ وذلك لأنه كان يعيش عنده هناك في ألمانيا أعداد ضخمة من اليهود، وهو يكرههم كراهية شديدة كما ذكرنا وهو في نفس الوقت يريد إخراجهم، ويخشى أنه إن ساعد اليهود يشعرون أنهم تحت حمايته فلن يتركوا ألمانيا أبداً، لكن جاء بعد ذلك هتلر، ونفذ الذي كان قيصر ألمانيا يفكر فيه.

إذاً: لم يفلح تيودور هرتزل في علاقاته مع ألمانيا وإن كان سعى لها.

كانت الدولة الثالثة المتمكنة في الأرض في ذلك الوقت هي دولة روسيا، ودولة روسيا هذه عجيبة جداً، فقد كانت من أشد الدول اضطهادًا لليهود، ففي كل يوم في روسيا في ذلك الوقت يقتل عشرات من اليهود اضطهاداً؛ وذلك لأن روسيا في ذلك الوقت أرثوذوكسية متشددة يكرهون اليهود بشدة، وكان فيها ٧.

٠٠٠.

٠٠٠ يهودي، وكان تعداد سكان روسيا في ذلك الوقت ١٣٦.

٠٠٠.

٠٠٠ روسي.

أراد تيودور هرتزل مقابلة وزير المالية الروسي وكان اسمه ويت، وهو من أشد الناس كراهية لليهود، ومع ذلك بذل تيودور هرتزل مجهوداً ضخماً جداً في أن يقابله، وبالفعل قابله ودار بينهما حوار عجيب.

فقد طلب تيودور هرتزل من وزير المالية الروسي أن يخلصه من يهود روسيا، قال له: ساعدني في أن أخلصك من الذين تكرههم، ساعدني في أن أضع هؤلاء الذين تكرههم في أرض فلسطين، وأخلصك من كل اليهود الذين أنت تكرههم.

انظر كيف يفكر تيودور هرتزل، في كل بلد يسعى إلى تحقيق مصلحة ما، ويضرب على وتر ما.

لكن وزير المالية الروسي رد عليه قائلاً: أنا في الحقيقة رأيي ألا أهجر اليهود، بل رأيي أن أغرق كل اليهود في البحر الأسود، وأتخلص منهم تماماً، فلا يبقى في روسيا ولا في فلسطين ولا في أي مكان في العالم يهود، لكن للأسف اليهود يملكون ٥٠% من اقتصاد روسيا، ولن نستطيع أن نغرقهم، أي: لن أستطيع أن أساعدك في هذا الموضوع.

ولم ييأس تيودور هرتزل من هذه المقابلة الجافة جداً من وزير المالية الروسي، بل أخذ يضرب على وتر آخر، فقال له: إن جنداً من الأتراك المسلمين يحرسون قبر المسيح عليه السلام في فلسطين، يعني: أنتم أرثوذوكس ومتشددون وتتركون المسيح عليه السلام يحرس بجند من المسلمين؟! لكن وزير المالية الروسي قال له: ربما يكون الأمر أكثر سوءاً لو كان اليهود هم حراسه، يعني: المسلمون أرحم من اليهود.

ولم ييأس تيودور هرتزل، بل أخذ يقول له: أنا أريد منك بعض التشجيع على الهجرة، ليس كامل التشجيع، فقال: نحن نشجع اليهود على الهجرة بركلات الأقدام، فقال: لا أريد هذا النوع من التشجيع، ولكن بطلب من السلطان عبد الحميد أن يسمح لهم بشركة امتياز في فلسطين، وأن تفرض ضرائب على اليهود هناك في روسيا، والسبب العجيب في ذلك أنه يريد أن يضيق عليهم الخناق في روسيا فيجعلون يرغبون في الهجرة، ويعطي تسهيلات لهم حتى يتركوا هذه البلاد، ولا يبقى في روسيا إلا أهل الاقتصاد والمال! رفض وزير المالية الروسي كل هذه الاقتراحات، وطرد تيودور هرتزل وأعلن رفضه بالكلية كل هذه المطالب، بل بعدها بشهور قليلة أقام مذبحة ضخمة جداً لليهود هناك في أرض روسيا، ومن ساعتها واليهود يدبرون لقلب نظام الحكم في روسيا لأنها لم تقف معهم، إلى أن أفلحوا في ذلك في سنة ١٩١٧م بعد حوالي ١٧ أو ١٨ سنة من هذا اللقاء الذي تم بين تيودور هرتزل وبين وزير المالية، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.

إذاً: كانت الدول العظمى آنذاك ثلاثة دول: إنجلترا، وألمانيا، وروسيا، وكانت فرنسا دولة قوية، لكن كانت مصالحها تتماشى مع مصالح إنجلترا!

<<  <  ج: ص:  >  >>