الدولة الرابعة هي الدولة العثمانية، وهي دولة في غاية الأهمية؛ لأنها هي الدولة التي تمتلك فلسطين، الأرض التي يريد أن يقيم فيها اليهود دولة.
يا ترى! ما هو موقف الدولة العثمانية من اليهود بصفة عامة؟ أولاً: الدولة العثمانية ضمت اليهود المشردين في العالم، وبالذات بعد سقوط الأندلس، فقد كانت الأندلس يعيش فيها أعداد كبيرة من اليهود تحت الحماية الإسلامية، ولما سيطر النصارى على هذه البلاد بعد سقوط دولة المسلمين في الأندلس، طردوا جميع المسلمين، وطردوا جميع اليهود، وأقاموا محاكم التفتيش للمسلمين ولليهود، وتخلصوا منهم بالكلية، وتشتت اليهود في بقاع الأرض، ولم يجدوا مكاناً يضمهم إلا عند الدولة العثمانية، فعاشوا في بلد في تركيا تسمى بلدة سالونيك، عاشوا فيها فترات طويلة من الزمان، وكونوا ما يعرف في التاريخ باسم يهود الدونمة، وهؤلاء لهم دور كبير في إنشاء دولة إسرائيل داخل فلسطين كما سيأتي.
إذاً: الدولة العثمانية قدمت في البداية يداً كريمة إلى اليهود، لكنهم أبداً ما رعوا حقاً ولا جميلاً.
الأمر الثاني: بدأ اليهود الذين يعيشون في الدولة العثمانية مع مرور الوقت يتقدمون بطلبات متكررة لشراء أرض في فلسطين، وللسماح لهم بالهجرة إليها، لكن رفضت تماماً وكان أشهرها المحاولة التي تمت في سنة ١٨٧٦م -يعني: قبل مؤتمر بال بعشرين سنة- بواسطة حاييم جورديلا أحد أثرياء الصهيونيين في ذلك الوقت، لكن كل هذه المحاولات رفضت، بل لما شعرت الدولة العثمانية أن اليهود يريدون أن يستوطنوا في هذه البلاد عينوا رجلاً شديداً اسمه رءوف باشا حاكماً على القدس، وأرسلوا قوات كثيرة تبحث دائماً عن اليهود المقيمين هناك بطريقة غير قانونية، ويطردونهم خارج فلسطين؛ ليعيشوا في أي مكان في الدولة الإسلامية تحت رعاية الدولة العثمانية؛ لكونهم يعلمون أنهم -أي: اليهود- يريدون أن ينشئوا دولة في هذا المكان.
في سنة ١٨٨٨م قبل مؤتمر بال بتسع سنوات أصدرت الدولة العثمانية قوانين جديدة نصت على ضرورة أن يحمل الأجانب الذين يرغبون في زيارة فلسطين جوازات سفر توضح عقيدة حامليها أول مرة، سواء النصرانية أو اليهودية أو غيرها، حتى لا يتسرب اليهود باسم رعايا البلاد الأخرى، كما رفضت السلطات العثمانية في ميناء يافا السماح بدخول اليهود الذين لا يحملون سمات دخول، بل حتى الزيارات التي كانت تعطى أحياناً لليهود كانت تعطى لفترة محدودة ولأغراض دينية فقط، وكانوا يوقعون على تعهد بمغادرة البلاد بسرعة، وبلغ الأمر حدة أن الدولة العثمانية منعت نائب القنصل الإنجليزي في أنطاكية من دخول فلسطين ما لم يقم بالتعهد المطلوب وهو مغادرة البلاد بسرعة، وهو رجل كبير في القنصلية البريطانية، منعته الدولة العثمانية لأنه كان يهودياً؛ مما أدى إلى توتر شديد في العلاقات بين الدولة العثمانية وبريطانيا.