وتأتي سنة ١٩٤٧م تحمل معها في أواخرها ظلماً جديداً خرج تحت عباءة الأمم المتحدة، ففي نوفمبر سنة ١٩٤٧م مشروع تقدمت به أمريكا وإنجلترا للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين، حلاً للمشكلة، إذ يُعطى اليهود جزءاً من الأرض يقيمون عليه دولة، ويُعطى الفلسطينيون جزءاً آخر، ولا أدري هل لو طالب المسلمون في أمريكا -وهم الآن حوالي ثمانية مليون- بأنه يُقطع لهم جزءاً من أمريكا ليُقام عليه دولة لهم، هل يسمع لهم أحد؟ هل لو حدث في أي مكان في العالم أن قمت بتهجير عدد كبير من البشر إلى مكان ما -تهجير الماليزيين مثلاً إلى أستراليا- أيحق لهم بعد فترة من الزمان ٣٠ أو ٤٠ سنة مثلاً أن يطلبوا قطعة من الأرض يقيمون عليها دولة؟ هذا ما حدث في فلسطين، هاجر إليها مجموعة من اليهود من شتات الأرض، وبعد سنوات معدودات طالبوا بدولة في هذا المكان، أيجوز في عرف المتحضرين هذا؟ هذا ما حدث في الأمم المتحدة، مشروع لتقسيم فلسطين بين اليهود وبين أهل فلسطين.
وليس هذا فقط، بل قد تجاوز الظلم الحدود، حيث جعل المشروع لليهود ٥٦.
٥% من أرض فلسطين، وجعل للفلسطينيين أصحاب البلد ٤٣% فقط من الأرض، وأُخرجت القدس من لعبة التقسيم، جُعل حكمها دولياً، وهي تمثل حوالي ٠٠.
٥% من أرض فلسطين، أي أن المشروع الظالم جعل لليهود أكثر مما جعل لأهل البلد.
وليس هذا فقط، ما زال للظلم ألوان أخرى، فلو نظرت إلى خريطة التقسيم لوجدت فيها أموراً عجيبة، تقسيم الدولتين في منتهى الغرابة، لم يقسّموها مثلاً إلى شمال وجنوب أو إلى شرق وغرب، كل دولة قطعة واحدة، ولكنهم فعلوا شيئاً غريباً جداً، وهو أنهم جعلوا الجزء الفلسطيني عبارة عن منطقتين منفصلتين: منطقة في الشرق هي الضفة الغربية لنهر الأردن، وجزءاً في الغرب وهو قطاع غزة وما حوله من مناطق، أما الجزء اليهودي فهو كالحلقة يحيط بكل جزء من أجزاء الفلسطينيين، وذلك كما هو واضح تمهيداً لإحكام القبضة على أهل البلد، حتى يكمل اليهود احتلال البلد في مرحلة لاحقة.
وليس هذا فقط، لا يزال في جعبة أمريكا خطايا أخرى، وهي أن أمريكا عرضت المشروع الظالم وبدأت عملية التصويت، وكان لا بد أن يحصل المشروع على ثلثي أصوات المجلس حتى تتم الموافقة عليه، وتم التصويت، ولم يحصل المشروع على ثلثي الأصوات وبالتالي لم يُقبل، واعترضت أمريكا وطالبت أن يُعاد التصويت بعد أيام قليلة، ووافقت الأمم المتحدة على إعادة التصويت، وقرروا أن يُعاد بعد أيام قلائل، وفي هذه الأيام بحثت أمريكا في أسماء الدول المعترضة كانت تحتاج إلى ثلاث دول حتى تصل إلى نسبة الثلثين، ووجدت ضالتها في الفلبين وهاييتي وليبيريا، فقامت بالضغط عليهم عن طريق رجال السياسة ورجال الاقتصاد، فعلى سبيل المثال: الذي ضغط على ليبيريا هو المليونير الأمريكي المشهور هاردي فايرستون صاحب مزارع المطاط في ليبيريا، وصاحب مصانع الإطارات المشهورة فايرستون، وتم التصويت للمرة الثانية بعد أيام، ورضخت الدول الثلاث للتهديد وتحققت النسبة المطلوبة، ووافقت الأمم المتحدة على مشروع السرقة المعروف بقرار رقم ١٨١ لسنة ١٩٤٧م، ويعلق وزير الدفاع الأمريكي آنذاك جيمس فورستل في مذكراته على هذا الموضوع فيقول: إن الطرق المستخدمة للضغط ولإكراه الأمم الأخرى في نطاق الأمم المتحدة كانت فضيحة.
وشهد شاهد من أهلها، وفوجئ العالم أجمع بما فيه العالم الإسلامي بالوجه القبيح لأمريكا، أما إنجلترا فيعرفون وجهها منذ زمن، واليهود معروفون بخسّتهم منذ أيام موسى عليه السلام، وأنا أرى أنه إن كان العالم قد فوجئ فإن العجب أن يفاجأ المسلمون، فإن الله قد نبّهنا إلى ذلك منذ مئات السنين فقال:{لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}[التوبة:١٠].