وقبل ذكر ما صنعوه نقول: إن الناس قد يحاولون أن يتبنوا نظرية، ثم إذا اقتنعوا بها في أول الأمر حملوها أحدهم، فيختلف الناس هنا على ضربين، فمن الناس من ينظر في ذلك الأمر الذي يحمله، فإذا رآه عظيماً جليلاً وراء ما وراءه من العزة والرفعة في الدنيا والآخرة تقلده، وهو الذي يجب أن تنصرف إليه الهمم، قال الشاعر: إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم وهناك أناس غلبت عليهم الشقوة، فيتقلدون أي أمر؛ لأنهم يسارعون إلى الظهور في أي حال، ولهذا حذر الله تعالى أولياءه بقوله:{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا}[القصص:٨٣].
فهؤلاء القوم -قوم ثمود- تبنوا مسألة عقر الناقة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحملوا ذلك الهم ويقوموا به، فما زالوا يتدافعونه حتى انحصر في تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ثم انحسر في هؤلاء التسعة حتى أصبح في شخص، ولكن التسعة وباقي القبيلة من غير المؤمنين كلهم كانوا بقلوبهم وجوارحهم مع ذلك المعروف بـ أحيمر ثمود عاقر الناقة، قال الله جل وعلا:{فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}[القمر:٢٩]، أي: عقر الناقة، فحق عليهم العذاب، قال الله تبارك وتعالى:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا}[الشمس:١١ - ١٤] أي: كذبوه فيما قال.
وفي سورة القمر التي بين أيدينا نسب الله ذلك إلى واحد منهم، وفي سورة الشمس نسبه الله إلى الجماعة، فنسبته إلى الفرد -وهو قدار بن سالف أحيمر ثمود عاقر الناقة- باعتبار أنه باشر عقر الناقة، أما نسبته إلى الكافرين من القبيلة فباعتبار أنهم كانوا راضين تمام الرضى، وقلدو صاحبهم ذلك، فقال الله جل وعلا:{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا}[الشمس:١٤ - ١٥]، أي أن الله جل وعلا أهلكهم وجعل ديارهم حصيداً كأن لم تغن بالأمس، جزاء لهم على أنهم كذبوا ذلك الرسول الذي بعث إليهم، وتلك سنة الله جل وعلا في سائر من كذب رسله، إلا فيمن كذب نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن الله قد علم أزلاً أن هذا النبي هو خاتم الأنبياء، وأن أمته آخر الأمم، ولم يكن الله قد أذن بهلاك العالم آنذاك، ولذلك لم تبسل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بآية ظاهرة حتى لا تهلك، وهذا أمر بينه الله جل وعلا في سورة الإسراء، وهو محرر في دروس خلت.
والذي يعنينا أن هذا ما ذكره الله جل وعلا في سورة القمر عن خبر عبده ونبيه صالح عليه الصلاة والسلام.