[الكبر من أصول الخطايا]
إن الكبر هو أول أصول الخطايا، ومنبته في القلب، وهو شعور الإنسان بالترفع.
وينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الكبر على الله، ولا ريب أن هذا هو الكفر المحض، بل هو أرفع درجات الكفر، وليس في درجات الكفر رفيع، لكن من باب التصنيف.
هذا الكبر ضرب الله فيه مثلاً على لسان النمرود لما قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:٢٥٨]، وعلى لسان فرعون لما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، فهذان مثالان ذكرهما الله جل وعلا في كتابه الكريم لشخصيتين تأريخيتين كفرتا بالله، وكان كفرهما مرده إلى الكبر، كما قال فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:٥١]، وهذا كما قلنا أعظم أنواع الكبر، وهو عين الكفر المحض، وأعظم ما عصي الله جل وعلا به.
النوع الثاني: كبر على الرسل، وهذا كان شائعاً ذائعاً في سائر الأمم، وقد تناقلته الأمم ولو من غير أن يشعروا، وحتى لو لم يكن هناك اتصال حضاري بين تلك الأمم ولقد دل القرآن على أن ذلك القول كان ديدن كثير من الأمم في ردها لرسلها، قال الله جل وعلا مثلاً عن قوم فرعون أنهم قالوا في حق موسى وهارون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:٤٧]، ورغم أنه لا يوجد دليل على اتصال حضاري ما بين الحضارة الفرعونية القبطية القديمة وما بين الحضارة في جزيرة العرب إلا أن القرشيين في صدهم لنبينا صلى الله عليه وسلم قالوا نفس المقولة، قال الله جل وعلا عنهم أنهم قالوا: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:٣١]، فهم ازدروا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يروا أن النبي عليه الصلاة والسلام أهل لأن يستحق النبوة والرسالة، فأخذوا يقولون ما تمليه عليه أفكارهم وآراءهم المنبثقة من كبر في صدورهم، وأبو جهل صور هذا أعظم تصوير يوم أن قال: كنا وبني هاشم كفرسي رهان: أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى إذا جثونا على الركب قالوا: منا نبي، فإن أطعناهم كيف لنا بعد ذلك أن نلحق بهم؟ فالقضية قضية كبر في قلوبهم، والله جل وعلا قال: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:٥٦].
ويجتمع النوع الأول والنوع الثاني من الكبر أن كليهما كفر محض، ولا يمكن التروي في قضية الحكم عليهما بالكفر؛ لأن الأمور إذا كانت جلية واضحة ذات حقائق بينة فليس هناك مدعاة للتروي.
وما يروى في هذا أن إياس القاضي الشهير بذكائه عوتب ذات مرة أن فيه شيئاً من العجلة، لكنه كان يعتمد على أمور يراها بغير ما يراها الناس، فلما أكثر عليه اللائمون قال لأحد من يحضرون مجلسه: كم عدد أصابع ي٠دك؟ فقال الرجل مباشرة وهو يجيب: خمس، فقال له إياس: لماذا أجبت عاجلاً ولم تترو؟ قال: سبحان الله، من يجهل أن أصابع يده خمس؟ فقال إياس محتجاً بهذا الجواب على هذا الرجل: فكذلك أنا ثمة أمور واضحة جلية لا أحتاج فيها إلى تأمل وترو.
الثالث: الكبر على الناس، وهو درجات, قد يصل أحياناً إلى الكفر المحض، وقد لا يصل، وهو الغالب.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، فظلم الناس وازدراؤهم ومنعهم حقهم نوع من الكبر، ورد الحق نوع من الكبر، والله جل وعلا يقول: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:١٤٦]، فلو لم يكن في الكبر من آفة ومن عواقب وخيمة أعظم من أن يصرف العبد عن آيات الله والتأمل فيها لكفى بذلك عقوبة وخسراناً، أعوذ بالله من ذلك كله.
من طريف ما يروى في هذا المقام وهو طريف من جهة أن الحجاج قاله، وغير طريف في أنها عبارات قاسية جداً تنم عن جفاء وكبر، هذا الخبر مفاده أن الحجاج بن يوسف قال قبل أن يدخل الكوفة أو بعد أن دخلها: ثمة رجال أربعة لو أدركتهم لقتلتهم للكبر الذي في أنفسهم -وقائل هذا الحجاج ولهذا قلت: أن هذا الموضوع من هذا الجانب طريف- قيل له: من أيها الأمير؟ قال: إن أحدهم صعد المنبر فخطب خطبة بليغة، فقال له أحد الحاضرين: كثر الله من أمثالك -أي: عجباً وفرحاً وإعجاباً بخطبة هذا الرجل- فقال: لقد كلفت ربك شططاً، كأنه يقول: صعب على الله أن يخلق مثلي.
وهذا والعياذ بالله كفر محض.
وآخر جاءته امرأة وهو واقف على قارعة الطريق، وقد أضلت طريقها فجاءت تسأله -قبل أن تسأله كانت لا تعرفه وإن كان وجيهاً في قومه سيداً في رهطه- قالت له: يا عبد الله أين طريق كذا وكذا؟! قال: ألمثلي يقال: يا عبد الله؟! فهو استكبر أن ينادى بهذا اللفظ مع أن الناس كلهم عبيد مقهورون لله من حيث الجملة، يقول الله تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:١٧٢]، وحتى من يستنكف أن يكون عبداً لله هو عبد لله شاء أم أبى، قال الله جل وعلا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:٩٣ - ٩٥].
آخر من ذكره الحجاج رجل ضاعت له ناقة، فأقسم بالله من جفائه وكفره وكبره لو لم يرد الله عليه ضالته ألا يصلي ولا يصوم، كأن الله محتاج إلى طاعته وعبادته.
وهذه فتنة من الله له، ولما رد الله جل وعلا له ناقته التي ضلت، قال: لقد علم ربي أن يميني كانت عزماً، وهذا كفر محض.
وقد يتعجب المرء إذا سمع مثل هذا، فالنفس جبلت على الكبر وجبلت على التواضع، الله يقول: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:٨]، فإذا كان المرء المؤمن ملجم بلجام التقوى تمنعه التقوى أن يقول ما يريده، وإن خلى الإنسان من التقوى ولم يبق القلب يخشى الله ولا يخاف مقامه جل وعلا أطلق لنفسه العنان في أن يقول ويفعل ما يريد.