هذه الروح قد شغلت الناس قديماً وحديثاً في البحث عن كنهها، رغم أن الله جل وعلا قد قال من قبل:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[الإسراء:٨٥].
وابن سينا الطبيب المسلم الفيلسوف المعروف -وله بعض الشطحات لكن ليس هذا مجال الحكم عليه- ابن سينا يقول -وهو يتكلم عن الروح في نظرة فلسفية-: هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع وصلت على كره إليك وربما كرهت فراقك وهي ذات تفجع أي: أنها أتتك أولاً وأنت لم تخترها، فالأجساد لا تختار الأرواح، وإنما الأمر بقدر الله، وسيأتي عليها يوم تفارق الجسد، ومعلوم أن الروح لا تختص بجزء من البدن، فليست في الأظافر، ولا في القلب، ولا في القدمين، ولا في غيرهما، بل هي منتشرة في الجسد كله، كما حرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
فإذا أخرجت كأنها تخرج من الجسد كله، ولهذا قال ابن سينا: كرهت فراقك وهي ذات تفجع أي: تريد ألا تخرج، والله جل وعلا أبلغ من هذا كله في تصويره لقضية خروج الروح، قال الله جل وعلا في خواتيم سورة الواقعة:{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}[الواقعة:٨٣]، ما التي بلغت الحلقوم؟ الروح، {وَأَنْتُمْ}[الواقعة:٨٤] من أنتم؟ من حول الميت، {حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ}[الواقعة:٨٤]، أي: تنظرون إلى الميت، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ}[الواقعة:٨٥]، هذا قرب الله إلى الميت بملائكته، {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة:٨٥]، أي: لا تبصرون الملائكة وهي تقبض روح الميت، يقول ربنا:{فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}[الواقعة:٨٦]، أي: تزعمون أنه لا جزاء ولا ثواب ولا عقاب، {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}[الواقعة:٨٦]، أي: كما تقولون، {تَرْجِعُونَهَا}[الواقعة:٨٧]، أي: ارجعوا الروح، فهذا أيسر لكم من نفي الحساب، {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الواقعة:٨٧]، ولم يأت بعد الآية تعقيب؛ لأنهم غير صادقين، ولا يمكن لهم أن يرجعوا الروح.
هذا ما حرره ابن سينا وقد عقبنا بالآية؛ لنبين أن كلام الله جل وعلا هو الفيصل في كل أمر.
أحمد شوقي -رحمه الله- اشتهر بالمعارضات، فعارض القصيدة العينية التي قالها ابن سينا، قائلاً: ضمي قناعك يا سعاد أو ارفعي هذي المحاسن ما خلقن لبرقع هذه المقصود منها التكلم عن الروح، ثم أغرق في نظرة فلسفية، لكنها تفيء إلى متكأ إسلامي أكثر مما كان يتكئ عليه ابن سينا في نظرته.
الذي يعنينا أن الروح والجسد شغلا الناس، لكنهما متصلان مع بعضهما، وقد بينا الأطوار التي تمر بها حالة الروح مع حالة الجسد، وأخبر الله جل وعلا أن هناك ملائكة يقبضون الأرواح، ونبينا صلى الله عليه وسلم أخبر -كما مر معنا- أن ملكاً ينفخ الروح في الجسد، ويؤمر بأربع كلمات: بكتابة الرزق والأجل والعمل، وهل هو شقي أو سعيد، وهذا الملك هذه هي مهمته، والله يقول على لسان ملائكته:{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}[الصافات:١٦٤]، فكل ملك له صبغة ووظيفة معينة، فهناك ملائكة تقبض الأرواح، كما أن ملكاً أودعها ملك يقبضها، والله ذكره مفرداً فقال سبحانه:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}[السجدة:١١] وذكره مع أعوانه، فقال جل وعلا:{تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}[الأنعام:٦١].
ختم الله لي ولكم بخير، ورزقني وإياكم الخاتمة الحسنة، والحياة الطيبة، وقبل ذلك العمر المديد المعمور بالعمل الصالح.