على هذا يتحرر أن الله جل وعلا خص هؤلاء الأنبياء والرسل بتلك الخصائص الخمسة التي ذكرناها، لكن تلك الخصائص وقف عليهم، ولا يمنع أن يكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد ذلك خصائص متفرقة بمعنى: أنها تكون مميزات لنبي دون نبي، ولهذا قال الله:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[البقرة:٢٥٣] ثم فصل فقال: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}[البقرة:٢٥٣]، والتكليم إذا أطلق ينصرف إلى موسى؛ لأن الله قال:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء:١٦٤]، لكن العلماء يقولون: من الذين ثبت أن الله كلمهم: محمد عليه الصلاة والسلام، وموسى، وآدم، كما في الحديث:(قيل: يا رسول الله! أكان نبياً هو؟ قال: كان نبياً مكلماً)، أي: أن آدم عليه السلام نبي مكلم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما موسى فقد صرح القرآن به:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء:١٦٤].
فالتكليم إذا أطلق ينصرف إلى كليم الله موسى، قال الله في شأنه:{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي}[الأعراف:١٤٤]، في حين أن عيسى عليه الصلاة والسلام ميزه الله جل وعلا بأنه ولد من غير أب، ولهذا نسب إلى أمه:{إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[آل عمران:٤٥]، فأيوب عليه الصلاة والسلام ابتلي فصبر، وسليمان وأبوه داود عليهما السلام أعطيا الملك، بخلاف أيوب وصبره، وهكذا اختلفت حياة الأنبياء؛ لأنهم جميعاً يمثلون ما في الإنسانية في أعلى ذروتها، وأكمل رقيها، يجمعهم جميعاً قول الله:{وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[الأنبياء:٧٣]، فكانوا عليهم الصلاة والسلام أعظم الخلق عبادة لربهم تبارك وتعالى، معصومين بعصمة الله جل وعلا لهم، فأنبياء الله ورسله اجتباهم الله بقوله:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:١٢٤]، يحكون في هذا: أن الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدا رجلاً طاعناً في السن يريد أن يتوضأ ولا يحسن الوضوء، وهو يظن أنه يحسن، فقدما إليه فقالا له: يا عماه! اختصمنا أنا وأخي في أينا أحسن وضوءاً، فتوضأ الاثنان أمامه ففقه ذلك العجوز من وضوئهما أنهما يريدان أن يعلماه؛ لأنه رأى فرقاً بيناً شاسعاً بين وضوئهما ووضوئه فقال: من أنتما؟ فقالا: الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان من ذلك العجوز إلا أن قبل رأسيهما، وصدق الله:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:١٢٤]، فهذان السبطان كان هذا صنيعهما، فكيف بأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم، والله الذي اختارهم على علم على العالمين، وجعلهم سادة للخلق، ودعاة للحق عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
ويونس بن متى كذلك ذكره الله جل وعلا في القرآن قائلاً لنبيه:{وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}[القلم:٤٨]، لكن قول الله جل وعلا عن هذا النبي الكريم يونس:{وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}[القلم:٤٨] ليس على إطلاقه؛ لأن الله قال بعدها:{وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ}[القلم:٤٨ - ٤٩].
والمعنى: أن يونس عليه الصلاة والسلام جاء لقومه فلم يستجيبوا له فخرج مغضباً، قال الله:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}[الأنبياء:٨٧]، و ((نَقْدِرَ)) هنا بمعنى: نضيق أي: ظن يونس أن الله لن يضيق عليه بسبب صنيعه هذا، فركب سفينة فألقى في البحر فالتقمه الحوت، وقد أمر الله الحوت ألا يأكل له لحماً، ولا يهشم له عظماً، ثم لفظه الحوت بأمر من الله:{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}[الصافات:١٤٥ - ١٤٧].
فالقضية في يونس: أنه خالف الأولى في مقام معين محدد، وليس على إطلاقه، ولهذا جاء مقيداً، {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}[القلم:٤٨].
غاية الأمر -أيها المباركون- أن نعرف شيئاً عن أنبياء الله ورسله، وإلا فالحديث عنهم لا يمله قلب، ولا تسأم منه أذن، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
هذا ما تهيأ إيراده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.