للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المسألة الزنبورية ووفاة سيبويه]

خرج سيبويه رحمة الله عليه إلى بغداد وهو في ذهنه يؤمل أمجاداً عريضة وآمالاً كبيرة، فقابل الكسائي، والكسائي أشبه بالند له، حيث كان إماماً في القراءات وفي النحو، وهو من أئمة أهل الكوفة، فحل ضيفاً عند يحيى بن خالد البرمكي، فبدءا يتحاوران وكانت المناظرات آنذاك شائعة ذائعة، وبها يميز العلماء بعضهم من بعض، فقال الكسائي لـ سيبويه: ما تقول في قولهم: كنت أظن أن العقرب أشد لسعاً من الزنبور فإذا هو هي -بالرفع- أو إياها بالنصب؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي -بالرفع- ولم يجز أن تقال بالنصب، فأصر الكسائي على أنها يصح فيها الوجهان: الرفع والنصب، فلما طال بينهما الاستشهاد والنزاع، قال يحيى بن خالد البرمكي، وهو الأمير وصاحب المجلس: من يفصل بينكما وقد تنازعتما وأنتما رئيسا ما لديكما؟ فقال الكسائي: وجوه الأعراب بالباب، أي أن الأعراب على السليقة لا يخطئون، ويقال هنا: إن إصبع السياسة دخل في هذه القضية، فلما حكم الأعراب، ليحكموا بين سيبويه والكسائي، وكان الأعراب يعرفون منزلة الكسائي عند يحيى بن خالد بخلاف منزلة سيبويه؛ لأن سيبويه لم يكن من أهل بغداد وكان قادماً لتوه من البصرة، والأعراب يظنون أن يحيى لا يعرف سيبويه وهو كذلك، فلما حكم هؤلاء الأعراب، حكموا بصحة ما قال الكسائي، فكأن سيبويه انكسر، فأراد الكسائي أن يشمت به من غير ما قصد أو بقصد، فقال لـ يحيى بن خالد: إن صاحبنا -أي: سيبويه - أتى ليطلب مالاً ونوالاً من عندك فأرضه، وهذا زاده حنقاً، وهذا ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقهر الرجال.

فخرج سيبويه يتوارى من سوء ما لحق به، وتوجه إلى إحدى القرى ونزل ضيفاً على تلميذه الأخفش، هناك أصابه كمد، وأراد الله بذلك الكمد أن يعجل بوفاته، فمات رحمه الله وهو في ريعان شبابه، قيل: إنه كان في الرابعة والثلاثين، وهو ليس معمراً قطعاً، ويقال: إنه قال قرب احتضاره يتكلم عن حاله وكيف وصل إلى ما وصل إليه، وكان قد انتهى به المطاف إلى ما انتهى إليه قال: يؤمل دنيا لتسعى له فوافى المنية دون الأمل حثيثاً يروي أصول الفسيل فعاش الفسيل ومات الرجل شبه نفسه برجل عنده فسيل، وهو صغار النخل، وهو يزرعه ويكد في سقيه يريد منه أن يعمر، لكن الرجل مات وبقي الفسيل حياً ثم كبر.

<<  <  ج: ص:  >  >>