الخليل بن أحمد -وهو أحد أكبر شيوخ سيبويه - إمام عظيم من أئمة اللغة والنحو، طاف البوادي والأمصار يجمع اللغة والعلم، ثم إن الله جل وعلا رزقه الزهد في الدنيا، فلم يكن يحفل بأن يكون له ثروة أو مال أو جاه، فكان الناس ينتفعون بكتبه التي ألفها وهو في بيته ليس فيه من معالم الثراء والجاه شيء، حتى إنهم قالوا: إن سليمان بن علي عم أبي العباس السفاح الخليفة العباسي المعروف ووالي الأهواز في زمانه بعث إلى الخليل رسولاً يطلب منه أن يؤدب ولده، فدخل داره، وأخرج خبزاً يابساً، ثم قال للرسول: ما دام هذا موجوداً فأنا في غنىً عن سليمان وخرج.
الذي يعنينا هنا أن ترى زهد هذا العالم الجليل في الدنيا، هذا العالم هو الذي ألف وابتكر وأسس علم العروض، ووضع أصوله، ولم يسبقه إليه أحد، وهو قائم على نظام الموسيقى العربية، ويقال: إنه كان يأتي الأسواق التي يباع فيها الأواني، فينظر لنغمات صوت الأواني، حتى أسس البحور الشعرية المعروفة كالوافر والكامل وغيرهما، ثم أخرج للناس علم العروض.
من طرائف ما يروى في هذا المجال أن أحد أبنائه دخل عليه، فلما رأى الابن أباه على هذه الحالة، وكان هذا أشبه بالإيقاعات اليوم، ظن أن أباه مجنون، فخرج، فناداه الخليل وقال له: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتك لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتك والأبيات ظاهرة المعنى، وإن كان في ألفاظها نوع من التشابه، ومعناها: أنك لا تعلم ما أنا فيه فتلومني، وأنا أعلم أنك تجهل ما أنا فيه فلا ألومك وإنما أعذرك، ولو كنت تعلم ما أنا فيه حقاً لما لمتني، ولو كنت أجهل ما أنت فيه لما عذرتك، هذا معنى البيتين.
الذي يعنينا أن الخليل بن أحمد كان له باع طويل بإثراء شخصية سيبويه، وقد كان سيبويه يتأدب مع شيخه الخليل بن أحمد، ولذلك كان يقول في الكتاب عنه: عفا الله عنه، فإذا قال هذا من غير أن يذكر القائل، قال أهل النحو من شراح الكتاب: ينصرف هذا إلى الخليل بن أحمد، فهو من إجلاله للخليل، يذكر الفعل: قال، ولا يذكر قائله في كثير من المواقف.