بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وأحكم كل شيء صنعه، وأشهد أن لا إله إلا الله لا رب غيره ولا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فسنتكلم -بعون الله- هذا اليوم عن قول الله جل وعلا:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ}[طه:١٠٥].
فبادئ ذي بدء نقول: استقر في أذهان العقلاء أن الجبال ترمز إلى الأشياء العظيمة الثابتة، التي يصعب تغييرها، فلهذا قلما أراد أحد أن يتحدث عن مجد أو أن يذكر أمراً سامقاً شامخاً يفخر به إلا وشبهه قريباً من الجبال، ومنه قول حسان رضي الله تعالى عنه وأرضاه -وهو في جاهليته، يتكلم عن مجد قومه الخزرج-: (شماريخ رضوى عزة وتكرماً) ورضوى: جبل يقع إلى الشمال الغربي من المدينة، فالجبال استقر في الأذهان -كما بينا- أنها رمز للأمر المصحوب بالأنفة، ومنه أيضاً قول الفرزدق يخاطب جريراً: فادفع بكفك إن أردت بناءنا ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحل فثهلان جبل، وقصد الفرزدق بهذا أن يبين أن المجد الذي بناه قومه لا يمكن أن يزحزح فشبهه بذلك الجبل.
يقول الله جل وعلا في هذه الآية المباركة من سورة طه:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ}[طه:١٠٥]، لما استقر في الأذهان -كما قلت- أن الجبال رمز عظيم، كان بدهياً أن أولئك المنكرين للبعث الناسين للنشور الذين يرتابون في قيام الساعة يتساءلون عن أمور كثيرة حولهم، فانصرفت أذهانهم وأبصارهم إلى هذه الجبال التي يشاهدونها قائمة، ففزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -من باب المكابرة- يسألونه عنها، فحكى الله جل وعلا ذلك السؤال بقوله:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ}[طه:١٠٥] فكان الجواب القرآني والرد الإلهي: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه:١٠٥]، فما استقر في أذهانكم من ذلك العلو، فإنه سيصبح هباء منثوراً.
لكن ذلك النسف إنما هو مرحلة، وإلا فذكر الله جل وعلا مراحل أخر تسبق نسف الجبال، فمنها: ما في قوله تبارك وتعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}[النمل:٨٨]، وقوله جل وعلا:{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}[المعارج:٨ - ٩]، فهذه مرحلة أخرى حتى تصل إلى مرحلة الاندكاك الكلي.