معجزة يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ... ما أضيق نظر الحاقدين والحاسدين والموتورين وهم يتجاهلون حقائق لا تملك العقول إلا أن تقرّ بها.
لقد كانت ظاهرة الوحي واضحة الدلالة على صدق «محمد»، ذلك الرجل الأمي الذي عاش في مكة في أجواء بعيدة كل البعد عن معرفة أمر السماء غافلة كل الغفلة عن أمر النبوة، لا تعرف إلا القليل مما كان يتتبعه حكماء مكة عن تاريخ الأنبياء، وكل ذلك لا يرقى إلى مستوى المعرفة المستوعبة التي تمد «محمدا» بتاريخ الأمم السابقة وقصص الرسل والأنبياء.
ووقف «محمد» أمام الوحي وهو يتنزل عليه لأول مرة خائفا وجلا يترقب، لا يدري ماذا يفعل .. أهذا حق ما يراه، أهو حلم نائم أم طيف عابر .. ووقفت زوجته تشجعه وتشد أزره «والله ما يخزيك الله أبدا».
ما زال يتذكر ذلك الطيف وهو يخاطبه «اقرأ» فيجيب بخوف: «ما أنا بقارئ»، فيتكرر الأمر «اقرأ يا محمد»، ويجيب وكأنه يخشى من ذلك الجواب ..
ما أنا بقارئ، ويأتيه الأمر من جديد «اقرأ باسم ربك الذي خلق».
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ويزول الطيف. ويبتعد .. ويترك «محمدا» وحيدا والهلع يأخذ منه كل مأخذ.
ويرتفع صوت بدأ هامسا، وأخذ يتردد في كيان «محمد»«والله ما يخزيك الله أبدا». ما أجمل ما فعلت هذه الكلمة في نفس «محمد»، أعادته إلى هدوئه، شعر بالأمن والدفء، أحس بفجر يطل من بعيد، إنه فجر صادق، والفجر الصادق لا يكذب أهله.
وأخذ «محمد» يستعيد أحداث حياته، طفولة قاسية، يتم ووحدة، مواقف صغيرة في حياته ما زال يذكرها، ولا يعرف تفسيرها .. طيف كان يلاحقه ويرعاه، لم يكن طيف أشباح وأوهام، إنما كان طيف رعاية واحتضان، يؤنسه في وحدته، يقويه ويغذي فؤاده بالأمل، ويقوده من حيث لا يدري إلى موطن الفضيلة، وتفتحت القلوب لذلك الشاب الصادق المستقيم الذي ما عهده قومه إلا أمينا صادقا وفيا وديعا حسن الخلق صافي النفس.