وتوقف الوحي فجأة، وأحس «محمد» بضيق شديد، ما بال الوحي الذي جاءه انقطع عنه، أيكون قد أخطأ فيما فعل. أيكون قد ضعف أمام جبريل، أيكون ربه قد ودعه وقلاه وهجره، كل ذلك كان يطوق مشاعر النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقلق مضجعه.
وسرعان ما جاءه الوحي من جديد، مبشرا واعدا مطمئنا، وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى، ويتهلل وجه الرسول، وينظر للملإ الأعلى نظرة شكر، ويدعو الله، ويتابع الوحي خطابه: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ولا حدود للعطاء، لأنه مرتبط بالرضى، والرضى نهاية ما يتطلع إليه الإنسان، وكلما تطلع لجديد أعطاه الله من جديد إلى أن يتحقق الرضى، في عطاء مستمر لا نهاية له.
وأخذ الوحي يطمئن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضحى]، كل ذلك من عطاء الله، والعطاء مستمر حتى يتحقق الرضى.
وبالرغم من كل ذلك، فإن الطبيعة البشرية تأبى إلا أن تشعر في بعض المواقف بالخوف والوجل، وينتابها الفزع والهلع، وهي تحمل أمانة ثقيلة، ستواجه مجتمعا قويا قاسي الملامح متكافلا في دفاعه عن ذاته، ولن يسمح ذلك المجتمع لمحمد أن يتحداه برسالته الجديدة، ولا أن يدعو إلى تغيير ذلك المجتمع، ويتنزل القرآن منجما لكي يحقق غايتين:
الأولى: تثبيت قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (١)، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحتاج إلى هذا التثبيت المستمر الذي يجدد الأمل ويقوي النفس وبخاصة في مواقف قاسية لا تحتمل النفس قسوتها، وتكاد تفقد قدرتها على الصبر.