للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأمة الغضبيَّة أوْفَرُ الأمم حظًّا من ذلك؛ فإنها أقدم (١) الأمم عهدًا، واستولتْ عليها سائِرُ الأمم من الكندانيين والكَلْدانِيِّيْن والبَابِليِّين والفُرْس واليُونَان والنَّصارى.

وما من هذه الأمم أمةٌ إلا وقصدتِ استئصالهم وإحْراقَ كتبهم وتَخْريبَ بلادهم، حتى لم يَبْقَ لهم مدينةٌ ولا جيش ولا حِصْنٌ إلا بأرض الحِجَاز وخَيْبَر، فأعزَّ ما كانوا هناك.

فلما قام الإسلام واستعلن الربُّ تعالى من جبال فاران صادَفَهم تحت ذِمَّة الفُرْس والنَّصارى، وصادف هذه الشرذمةَ بخَيْبَرَ والمدينةِ فأذاقهم الله بالمسلمين -من القتل والسبي وتخريب الديار- ذَنُوبًا مثل ذَنُوبِ أصحابهم، وكانوا من سِبْطٍ لم يصبهم الجلاءُ، فكتبَ الله عليهم الجلَاءَ وشَتَّتهم ومزَّقَهم بالإسلام كلَّ مُمَزَّقِ.

ومع هذا فلم يكونوا مع أمةٍ من الأمم أطْيَبَ منهم مع المسلمين ولا آمَنَ؛ فإنَّ الذي نالهم من النَّصارى والفُرْس وعُبَّاد الأصنام: لم يَنَلْهُم من المسلمين مثلُه. وكذلك الذي نالهم مع ملوكهم العُصَاة الذين قتلوا الأنبياء وبَالَغُوا في طلبهم وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سَدَنَةً للأصنام لتعظيمها وتعظيم رُسُومها في العبادة، وبنوا لها البيَعَ والهياكل وعَكَفُوا على عبادتها وتركوا لها أحكام التوراة وشَرْع موسىَ أزمنةً طويلة وأعصارًا متصلة.

فإذا كان هذا شأنهم مع ملوكهم، فما الظنُّ بشأنهم مع أعدائهم، أشد الأعداء عليهم، كالنصارى الذين عندهم أنَّهم قتلوا المسيح وصلبوه


(١) في "غ، ص": "من أقدم".

<<  <  ج: ص:  >  >>