ومع سلامة القصد، واختلاف المنهج لم يدّع واحد من العلماء أن (اجتهاده) هو الحق، ولما سئل الإمام أبو حنيفة:
هل ما تقول هو الحق الذي لا مرية فيه؟
قال: والله ما أدري، لعله الباطل الذي لا مرية فيه!
أما الشافعي فقد قال عن (اجتهاده) كلمة سرت في الفكر الإسلامي سريان الماء في العود، تلك قولته:
"رأييى صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري (أي عنده) خطأ يحتمل الصواب"
أما تلميذه، وخاتمة الأئمة المشهورين أحمد بن حنبل فقد قال:
لقد بذلت المجهود من نفسي وإني لأرجو أن أخرج منه كفافًا لا عليَّ ولا لي ".
كما أنه من المقرر، عند المسلمين، أن اجتهادات العلماء ليست دينا، ولا وحيا، فمخالفتها ليست مخالفة للإسلام، وهذا أعطى الحرية الفكرية للمسلم في اختياره ما يراه حقا مطابقا للإسلام، أو هو الأقرب إليه.
كما أعطى أهل العلم، في كل عصر وزمان حرية الاجتهاد فيما اجتهد فيه
السابقون، وفيما يستجد من مسائل اقتضاها تغير الأحوال وتقدم الزمان. وتلك من فضائل الإسلام، وصلاحيته فقها، وتشريعا لكل زمان ومكان.
لم يكن السلمون، مع علمائهم، كغيرهم، الذين يعتبرون كلام
(رجال دينهم) وحيا واجب الاتباع، ومن خرج عليه كان جزاؤه (الحرمان) .
دُلّوني - إن استطعتم، ولن تستطيعوا - على دين ربَّى أمته على الحرية الفكرية إزاء أقوال علمائه كما قرر تاريخ المسلمين، وكما نص عليه كبار أئمتهم، حتى إنهم هم الذين يفتحون باب نقدهم على مصراعيه.
إنكم تفاخرون بقول (فولتير) لمخالفه في الرأي: أنا أخالفك في الرأي، ولكني سأدافع عن حقك في إبداء الرأي إلى آخر قطرة من دمي وهذا حسن، ولكن متى وصلتم إلى هذا؟ وهل أقرته الكنيسة؟
إنه كان بعد عصور من كبت الرأي، واحتكار تفسير الكتاب المقدس، وقد سجن (فولتير) بأمر الكنيسة.
ثم لم يكن ذلك إلا في منتصف القرن الثامن عشر، على حين كان المسلمون قد تمتعوا بهذه