للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنْ قُدِّرَ فِي مِنَّةِ الرَّبِّ ضَرَرٌ - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ - فَمَفْسَدَةُ ذَلِكَ الضَّرَرِ أَخَفُّ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ بِمَا لَا يَتَنَاهَى، فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا مُبْتَلًى مُلْقًى عَلَى الْمَزَابِلِ مَجْذُومًا مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَأَتَاهُ إنْسَانٌ غَنِيٌّ يَقْدِرُ عَلَى أَلْفِ قِنْطَارٍ مِنْ الْمَالِ فَقَلَعَ عَيْنَهُ ثُمَّ أَطْعَمَهُ لُقْمَةً فَقِيلَ لَهُ لِمَ قَلَعْتَ عَيْنَ هَذَا الضَّعِيفِ الْمِسْكِينِ؟ قَالَ إنَّمَا قَلَعْتُهَا ثُمَّ أُطْعِمُهُ هَذِهِ اللُّقْمَةَ، فَقِيلَ لَهُ: أَكُنْت قَادِرًا عَلَى إطْعَامِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْلَعَ عَيْنَهُ؟ فَقَالَ نَعَمْ: كُنْتُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ فَقِيلَ: لَهُ فَلِمَ قَلَعْتهَا مَعَ سَعَةِ غِنَاك وَقُدْرَتِك عَلَى أَنْ لَا تَقْلَعَهَا؟ فَقَالَ؛ لِأُحْسِنَ إلَيْهِ بِدَفْعِ تَمْنُنِّي عَلَيْهِ، لَقَطَعَ الْعُقَلَاءُ بِقُبْحِ مَا أَتَاهُ وَلَعَدُّوهُ مِنْ أَسْخَفِ النَّاسِ عَقْلًا، وَأَفْسَدِهِمْ عَمَلًا، وَأَفْشَلِهِمْ رَأْيًا، فَإِنْ اعْتَبَرُوا الْغَائِبَ بِالشَّاهِدِ كَانَ هَذَا مُكَذِّبًا لَهُمْ لِقُبْحِهِ فِي الشَّاهِدِ، وَحُسْنِ صُدُورِهِ مِنْ الرَّبِّ.

وَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرُوا الْغَائِبَ بِالشَّاهِدِ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ إلْحَاقُ الْغَائِبِ بِالشَّاهِدِ مَعَ ظُهُورِ الْفَارِقِ، فَإِنَّ هَذَا قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ حَسَنٌ فِي الْغَائِبِ.

وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَدَرِيَّةُ إذَا سَلَّمُوا الْعِلْمَ خَصِمُوا، وَمَعْنَاهُ إذَا سَلَّمُوا أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا يَقَعُ فِي الْعَالَمِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَلَمْ يُزِلْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إزَالَتِهَا فَهَذَا قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ مِمَّنْ قَدَرَ عَلَى إزَالَتِهِ، وَلَا يَقْبُحُ مِنْ الرَّبِّ لِمُوَافَقَتِهِمْ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ مُثِّلَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ لَهُ عَبْدٌ مُفْسِدٌ مُقَيَّدٌ يَعْلَمُ مَالِكُهُ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَهُ لَأَفْسَدَ أَمْلَاكَ سَيِّدِهِ وَأَمْوَالَهُ، وَلَزَنَا بِإِمَائِهِ وَبَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ، وَلَقَتَلَ أَوْلَادَهُ وَأَحِبَّاءَهُ، فَأَطْلَقَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ قَادِرًا عَلَى دَفْعِهِ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ فَلَمْ يَدْفَعْهُ، فَإِنَّ هَذَا قَبِيحٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَاتِ، وَلَمْ يُلْحِقُوا الْغَائِبَ فِيهِ بِالشَّاهِدِ.

فَإِنَّ اللَّهَ أَقْدَرَ الْعَاصِينَ عَلَى عِصْيَانِهِمْ، وَالْمُفْسِدِينَ عَلَى إفْسَادِهِمْ، مَعَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ نَاظِرٌ إلَيْهِمْ لَا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى تَغْيِيرِهِ، وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا حَسَنٌ مِنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِذَا انْقَطَعَ الْغَائِبُ عَنْ الشَّاهِدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَكَيْفَ يُلْحَقُ بِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>