للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم قال: وكان شيخنا يحيى بن عدي يقول: إني لأعجب كثيراً من قول أصحابنا إذا ضمنا وإياهم مجلس: نحن المتكلمون، ونحن أرباب الكلام، والكلام لنا، بنا كثر وانتشر وصح وظهر! كأن سائر الناس لا يتكلمون أو ليسوا أهل الكلام؟ لعلهم عند المتكلمين خرس أو سكوت! أما يتكلم يا قوم الفقيه، والنحوي، والطبيب، والمهندس، والمنطقي، والمنجم، والطبيعي، والآلهي، والحديثي، والصوفي؟ قال: وكان يلهج بهذا، وكان يعلم أن القوم قد أحدثوا لأنفسهم أصولاً وجعلوا ما يدعونه محمولاً عليها ومتناولاً من عرضها، وإن كانت المغالطات تجري عليهم ومن جهتهم بقصدهم مرة وبغير قصدهم أخرى.

قال: وكان يصل هذا كثيراً بقوله: والدليل على أن النحو، والشعر، واللغة ليس بعلم، أنك لو لقيت في البادية شيخاً بدوياً قحا محرما، لم ير حضرياً ولا جاور أعجمياً، ولم يفارق رعيه الإبل وانبثاث المناهل وهو مع قبح هيئته التي لا يشق غباره فيها أحد منا وإن كلف، فقلت له: هل عندك علم؟ لقال: لا. هذا، وهو يسير المثل، ويقرض الشعر، ويسجع السجع البديع، ويأتي بما إذا سمعه واحد من الحاضرة وعاه، واتخذه أدباً ورواه، وجعله حجة.

وكان يقول: هذه الآداب والعلوم هي قشور الحكمة وما انتثر منها على فائت الزمان، لأن القياس المقصود في هذه المواضع والدليل المدعى في هذه لأبواب معها ظل يسير من البرهان المنطقي والرمز الآلهي والإقناع الفلسفي! قد بين هذا الباب أرسطو طاليس في الكتاب الخامس، وهو الجدل، كل ما في الإمكان من التعليق به والاحتجاج منه، مع التمويه والمغالطة، بل كثير من المتكلمين لا يصلون إلى غايات ما كشفه ورسمه وحذر منه وأبان عنه، وإن أنضوا مطيهم، وأبلوا جهدهم، سوى ما أتى عليه قبل هذا الكتاب وبعده مما هو شفاء الصدور وقرة الأعين وبصيرة الألباب؟ والكلام في هذا طويل.

<<  <   >  >>