والأمن مظنون، والسلامة متمناة. فماذا ينتظر المرء اللبيب بنفسه بعد هذه الآيات المتلوة، والأعلام المنصوبة، والحالات المنقلبة، والنعم المتقلبة، والأعمار القصيرة، والآمال الكاذبة؟ أما يتعظ! أما يعلم أنه من جنسه ومحمول على تدبيره، وأنه لا فكاك له مما لا بد من حلوله به، من انحلال تركيبه، واستحالة عنصره، وانتقاله إلى حال بسيطة إن خيراً فخير، وإن شراً فشر؟ بلى يعلم، ولكن علماً مدخولاً، ويعقل، ولكن عقلاً كليلاً، ويحس ولكن حساً عليلاً، كما قال الأول:
أشكو إلى الله جهلاً قد منيت به ... بل ليس جهلاً ولكن علم مفتون
واعلم أن الغرض كله من هذا الكتاب، وجميع ما اثبت عن هؤلاء الشيوخ، إنما هو في إيقاظ النفس، وتأييد ألعقل، وإصلاح السيرة، واعتياد الحسنة، ومجانبة السيئة. فاستصحب الغرض بالنية الجميلة فلعلك تؤهل للفلاحة والسعادة عند توزيع هذه الجملة المشتبكة، وانحلال هذه الحبائل المنعقدة.
المقابسة الربعة والأربعون
في معنى الإمكان وما قيل فيه
رأيت فضلاء من الفلاسفة، وهم الذين قد نوهت بأسمائهم مراراً يكثرون الخوض في معنى الإمكان، ويتداولون المسئلة والجواب فيه، وقد اقتبست منهم ما رسمته في هذا الكتاب، على طريقة قريبة وألفاظ معهودة، فأشركني في تقبل الفائدة إن كنت طالب فائدة، ولا تسبق إلى الاستحسان والاستقباح، والتخطئة والتصويب، قبل التفهم والتصفح، والتقليب والتنقير، فإنها مسئلة صعبة.