الحق، وإن هم هم بالخير، وإن نوى نوى الجميل، وإن حث حث على الصلاح وإن زجر زجر عن الفساد، وإن لحظ لحظ العلو، وإن غض غض عن السفل. فقال له بعض الحاضرين: فكأنه يفارق الطبيعة البشرية، وينسلخ من العوائق العنصرية؟
فقال: يفارقها من وجه ولا يفارقها من وجه يفارقها بأن يميت هواجسها إماتة، ويسكن سونحها تسكيناً، ويخمد لواهبها إخماداً، ويقتدر على بلوغ هذه الغاية اقتدارا. ولا يفارقها بأن يبقى إنساناً لا طبيعة له ولا مزاج ولا بشرية! هذا ما لا يجب ولا يكون وقدر ما أمكن من ذلك قدراً يجاوز كل أمنية، ويشرف على حال سنية؛ وهذه هي حال الفلاسفة الكبار، وحال البررة الأخيار، وحال من قد خصه بالزلفى، وأناف به على الذروة العليا واندفع في هذا وما شاكله يقوى بدر وتبر وتمر. وكان كاملاً بهذا الفن لا يؤتي فيه من عي ومس، ولا من نقص ولبس، وقام جلساؤه عنه في هذه العشية وكأنما قد نهلوا من الخمرة الصرف والشراب العتيق، وكان كلامه أكثر من هذا ولكن إلى ها هنا بلغ حفظي وتتبعي، وسيمر عنه ما يشفي القرم، ولا يورث السأم، إن شاء الله تعالى.
المقابسة السادسة والعشرون
في أن اليقظة التي لنا بالحس هي النوم
والحلم الذي لنا بالفعل هو اليقظة
سمعت أبا إسحق الصابي الكاتب يقول: رأيت ثابت بن قرة الحراني في المنام قاعداً على سرير في وسط دجلتنا هذه، وحوله ناس كثير، كأن