خرج أبو سليمان يوماًً ببغداد إلى الصحراء، بعض أيام الربيع، قصداً للتفرج والمؤانسة، وصحبته، وكان معنا أيضاً صبي دون البلوغ جهم الوجه بغيض المحياشتيم المنظر، ولكنه كان مع هذه العورة يترنم ترنماً ندياً عن جرم ترف، وصوت شج، ونغمة رخيمة، وإطراق حلو، وكان معنا جماعة من طراق المحلة، فلما تنفس الوقت أخذ الصبي في فنه، وبلغ أقصى ما عنده، فترنح أصحابنا وتهادوا وطربوا. فقلت لصاحب لي ذكي: أما ترى ما يعمل بنا شجن هذا الصوت، وندى هذا الحلق، وطيبة هذا اللحن، وتفنن هذه النغمة؟! فقال: لو كان لهذا من يخرجه ويعني به، ويأخذه بالطرائق المؤلفة والألحان المختلفة، لكان يظهر أنه آية، ويصير فتنة، فإنه عجيب الطبع، بديع الفن، غالب الدين والشرف.
فقال أبو سليمان، فلتة: حدثوني بما كنتم فيه عن الطبيعة، لم احتاجت إلى الصناعة؟ وقد علمنا أن الصناعة تحكي الطبيعة وتروم اللحاق بها والقرب منها، على سقوطها دونها؟ وهذا رأي صحيح وقول مشروح، وإنما حكتها وتبعت رسمها وقصت أثرها لانحطاط رتبتها عنها، وقد زعمت أن هذا الحدث لم تكفه الطبيعة ولم تغنه، وأنها تعنيه وأنها قد احتاجت إلى الصناعة حتى يكون الكمال مستفاداً ومأخوذاً من جهتها، والغاية مبلوغة بمعونتها وإصدارها؟ فقلنا له: ما ندري! وإنها المسألة؟