استجاب كف عرام طبيعته، وأمات هائج شهوته بالتدريج والترتيب، ليكونه ممن إصغاؤه إلى نصح العقل وهدايته أتم، ويكون استضاءته بنوره أشمل وأعم، فلهذا كان للعقل تحريم وتحليل، وحظر وإباحة، ومنع وإجازة، وكف وحث، وإطلاق وقيد، وحبس وبعث، لا على ما يظنه من لا خبرة له بالحقائق، ولا استجابة له عند داعي الرشد.
المقابسة التاسعة والثلاثون
في كيف يفعل العاقل اللبيب ما يندم عليه؟
قيل لأبي سليمان: كيف يفعل العاقل اللبيب والحازم الأريب، ما يندم عليه؟ وكيف يقدم على ما يعقبه تبعة، ويأتي ما يأباه بعقله، ويكرهه بدينه، ويعافه بمروءته، وينكره بعادته، ويمنع منه غيره بنصيحته؟ هذا مع اختياره الذي هو إليه، واستطاعته التي هي حاصلة لديه، ومع عقله الذي هو كاللجام والزمام، والقاضي والإمام؟
فقال: الاختيار والاستطاعة، القوة والقدرة، والحزامة والعزيمة، والرأي والروية، والشهامة والصريمة، والتحصيل واليقظة، وكلما كان في قبيلها، وجارياً في حلبتها، ومشاكلاً لها، ونازعاً إليها، وداخلاً في حرمتها، ليست هي للإنسان على طريق الملك يصرفها كيف يشاء، ويقلبها كيف يريد، بل هي له من جهة التمليك، فلو كانت على جهة الملك ما زل زلة ولا ضل ضلة، ولا ندم ندامة لاذعة، ولا التزم مؤلمة موجعة، ولا زحم زحمة موحشة، ولا نكص على عقبيه متحيراً، ولا بقي منكساً مبهوراً، متى كانت عنده على وجه التمليك من مالكها، بقيت منها بقايا عند مالكها متى شاء تمام فعله أمده منها بما يتم له فعله، لئلا يظن ظان أن ذلك لاستقلاله