القصوى، واستهان من اجله بالحياة الدنيا، أجدر أن يفزع عن خلائقه ووتائره التي قد ارتبطته وأورطته، وأنه أهلا لذلك وهو به أليق وعليه أقدر وفيه أعذر، وأن الصواب موكل به وناصر له، بقدر ما كان الخطأ مؤكلاً بالأول وواضعاً منه.
المقابسة الستون
في النثر والنظم وأيهما أشد أثراً في النفس
قال أبو سليمان، وقد جرى كلام في النظم والنثر: النظم أدل على الطبيعة، لأن النظم من حيز التركيب. والنثر أدل على العقل، لأن النثر من حيز البساطة. وإنما تقبلنا المنظوم بأكثر مما تقلبنا المنثور لأنا للطبيعة أكثر منا بالعقل، والوزن معشوق للطبيعة والحس؛ ولذلك يفتقر له عند ما يعرض استكراه في اللفظ. والعقل يطلب المعنى، فلذلك لا حظ للفظ عنده وإن كان متشوقاً معشوقاً. والدليل على أن المعنى مطلوب النفس دون اللفظ الموشح بالوزن المحمول على الضرورة؛ أن المعنى متى صور بالسانح والخاطر وتوفي الحكم لم يبل بما يقويه من اللفظ الذي هو كاللباس والمعرض والإناء والظرف. لكن العقل مع هذا يتخير لفظاً بعد لفظ، ويعشق صورة دون صورة، ويأنس بوزن دون وزن، ولهذا شقق الكلام بين ضروب النثر وأصناف النظم. وليس هذا للطبيعة؟ بل الذي يستند إليها ما كان حلواً في السمع، خفيفاً على القلب، بينه وبين الحق صلة، وبين الصواب وبينه آصرة، وحكمها مخلوط بإملاء النفس، كما أن قبول النفس راجع إلى تصويب العقل.
ثم قال: ومع هذا ففي النثر ظل النظم، ولولا ذلك ما خف ولا حلا ولا طاب ولا تحلا، وفي النظم ظل من النثر، ولولا ذلك ما تميزت