فمن ذلك قول القائل: زعم أن لا طبيعة للمكن وإنما هو موقوف على فرض الفارض، ووهم الواهم، ووضع الواضع، وظن الظان، وليس كالواجب الذي هو ثابت على وتيرة واحدة، وجديلة محدودة معلومة، والحد قائم الطبيعة، كالممتنع الذي هو أيضاً على هيئة واحدة، لا يرتقي صعداً ولا يتمايل سفلاً. والبرهان على ذلك أن الواجب لا يستحيل ممتنعاً البتة، لا بزمان ولا في مكان، بل لا ينحط الواجب إلى الإمكان، لا معقولاً ولا موهوماً ولا مفروضاً ولا مظنوناً، وكذلك لا يسمو الممتنع إلى الإمكان في حال من حالاته على ما سلف البيان عنه.
وقال آخر من هؤلاء الجلة: ما يؤيد هذه المضادة ويحققها ويوضح مشكلاً إن كان عرض منها، أنك إذا قلبت هذه الألفاظ الثلاثة وفحصت عن عناصرها، ورتبت معنى كل اسم منها، من جهة وزنه وترتيبه وصفته وخلقته، وجدت وجوهها المختلفة دالة على معانيها المختلفة، وذلك أنك إذا قلت: هذا واجب، وهذا الوزن وزن فاعل من جهة اللفظ؛ وإنما قلت من جهة اللفظ.
قال: لأن الفاعل من جهة المعنى مقتضى لمفعول، والواجب مثبت لنفسه عما يكون هو به مفعولاً، وعما يكون هو له فاعلاً، والفاعل من المضاف، وكذلك المفعول، ليس الكلام فيهما. وإذا اعترض من ناحية وزن الاسم وتبرأ من كل صفة موهومة هذا التبرؤ، ولقيامه بنفسه واستغنائه بجوهره وكماله بذاته، أعطى المؤنة الأولى والحد الأعلى. والممتنع إذا قلبت معناه من ناحية وزنه وجدت فيه معنى من معاني الانفعال ونظائره، فالبينة تشهد بذلك. وهذا نظر يستهلك نظر النحوي ويوفي عليه، لا بل فوقه في الشرف وإن كانت قوة النحو مقتصرة وشهادته مستعارة له، فكأنه قد استضاف فعلاً ما إلى نفسه، كما استضاف محتمل ومشتبه وملتبس ومقتصد، وتقرين