هذا لأمرين: أحدهما أن في القسمة قد تبين أن ها هنا محركا، لأن في مقابلته محرك غير محرك، والثاني أن معقولنا من قولنا الباري محرك الأشياء لأنها تنحوه وتصمد إليه وتتشوقه وتفعل به وتنفعل له، لأنه تقدس وعلا يوسم ما يوسم به أصناف ما تحرك أو محرك.
وقال بعض الأوائل: العلم والعمل حدا الفلسفة، وكل واحد منهما بين ضين: فالعلم بين الصدق والكذب، والعمل بين الخير والشر. ثم قال: هذه الرذائل كلها إعدام هذا لفظه فمن ألفها واستعملها وانقاد لها وغلب عليها فقد أعدم نفسه وعدمها وعدم معها واضمحل فيها، والعدم حال سيئة مكروهة فاحشة، لا يأتي عليها نعت وإن كان بليغاً، ولا يحيط بها قول وإن كان شافياً. فأما الفضائل فعلى خلاف هذه كلها؟ هي موجودة ولها الوجود المستفاد من الوجود الأول. فمن اقتناها واستعملها وراض نفسه بها إليها، وأجرى عادته عليها، وألان عريكته لها، انقطاعاً عما عداها وانقطع إليها، وكمل مناقصه بالازدياد منها، بقي موجوداً بوجودها؛ وجوداً لائقاً به على قدر اشتماله عليها، وتصريفه لها، وإمعانه فيها، فما ظنك بحال توضح لك الفصل بين الموجود والمعدوم، وترشحك لنيل ملك عظيم، وتحليك للظفر بشأن جسيم، توقفك على صراط الله المستقيم؟ ثم قال: وليس في التحلي بالحكمة تعب كثير، قد والله شاهدنا قوماً تحملوا آلاماً كثيرة وركبوا أهوالاً عظيمة لسبب إغراض باطلة، وأعراض زائلة، لسبب هوى سول لهم، وقرين أغواهم، واعتقاد رديء غلب عليهم، وشيء حقير تعجلوه بشهواتهم! وطلب السعادة بإصلاح السريرة وانتحال الصواب أهون من ذلك أجمع. فلا يصدنك عن سلوك هذه المحجة البيضاء أمر مبهم، ولا حال مستعجمة، فإن فيما تدركه وتشرف عليه وتنال الروح به خلفاً كثيراً وفائدة عظيمة. فلا تكل نفسك إلى اختيار السوء، وإلى قرناء السوء، فإنك إن فعلت ذلك خسرت خسراناً مبيناً وضللت ضلالاً