وسمعت أبا سليمان يقول للجرجاني الكاتب، وكان يحدث نفسه بالوزارة: أيها الرجل، إن الدنيا نار ذات دخان، فلو سلوت عن صلائها لدخانها، لكان أجدى وأسلم؟ فقال: أفلا أصبر على دخانها لا تنفع بضيائها، واستمتع بصلائها؟ فقال: ما أحسن هذه العارضة! لو كنت في الاستمتاع بضيائها على ثقة ومن الانتفاع بصلائها على يقين؟ وكنت إذا أدركت ذلك دام عليك وصفاً لك! فأما والعادة جارية بخلاف قولك وبضد اقتراحك وتوهمك، فلا. فقال الجرجاني: الله الموفق وهو حسبي.
فقال أبو سليمان: حكم الكتاب وأصحاب الخطابة مخايل، تصدق قليلاً وتكذب كثيراً، ليس لها رسوخ في القلب، ولا ثبات في العقد. فلما قتل الجرجاني قال أبو سليمان: مسكين ذلك الرجل، صبر على دخانها إلى أن اختنق، وتعرض لصلائها حتى احترق. ثم قال: اللهم لا تكلنا إلا إليك، ولا ترغبنا إلا فيما لديك، ولا تعرضنا إلا لطلب ما عندك، إنا لعجزة عن قدرة نطلبها بنا، وضعفة عن قوة ندعيها فينا، أرنا الحق حقاً ثم هيئنا لإتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ثم وفقنا للإعراض عنه، يا من يملك العيان والخبر ويرينا بهما العجائب والعبر.
قد قوي رأيي أدام الله توفيقك أن لا تكون هذه المقابسة في هذا الموضع كأنها ناكبة عن أخواتها المواضي ولكنها على حال قد أخذت بنصيبها من الحسن، ولعها تفيد بعض الفائدة.
قيل لأبي سليمان: لماذا إذا جد السؤال جد المنع به.
فقال: لأن الحال يلتبس بشيء كالإغراء والإكداء والأرجاء، فيقع للمسؤل أنه قد ظلم، وأن السائل قد اعتدى، فإذا استقر هذا في نفسه