وعليه، كدائرة في العقل، فمتى فرض فيها قول وجعل مبدأ لأقوال انتهى منه إلى آخر ما يمكن أن يقال، فليس من قول إلا وقد قيل أو يقال، وليس من فعل إلا وقد فعل أو سيفعل، وليس من شيء إلا وقد علم أو سيعلم، وهكذا في الظن والرأي وغير ذلك، وأمثال هذا بين في كل ما أردته، وذلك أنك لا تشير إلى رأي أو نحلة إلا أمكنك أن تظن به كل ما ظن ويظن، وتقول كما قيل ويقال، وإنما يضيق مجم أحدنا، وينفسح مشرب الآخر، لأن الخاطر يسنح مرة ولا يسنح مرة، والقلب يتسع تارة ولا يتسع تارة، واللسان ينطق وقتاً ويمسك وقتاً.
قال أبو الخطاب: هل للخواطر والألفاظ والآراء والمقالات نسبة إلى المزاج والطينة والهواء، وإلى العناصر بالجملة؟
فقال: نعم، لها نسبة قوية، وعلاقة شديدة، ورباط متين، إلى هذه الأمور التي تنظر فيها، أو تطيف بها، أو تطل عليها، ولا سبيل مع ذلك إلى اتفاق الناس في حال من الأحوال، وسبيل من السبل ولو أمكن ذلك لوجد! ألا ترى أنه لا سبيل إلى أن يكون الناس كلهم طوال القدود أو قصورها، وضخام الرؤوس أو صغارها، وفصحاء الألسنة أو لكنها، أو على مذهب واحد أو حد، ومقابلة واحدة؟ كيف يكون هذا أو يظن والطبيعة إنما تعطي صورتها لكل شيء بحسب قبوله وتهيئته ومواتاته؟ فليس الزند من عطية الطبيعة، ولكن على قدر قبوله، وصلابة الحجر من عطية الطبيعة ولكن على قدره، فاختلاف الصور إنما ينشأ من اختلاف المواد، وهذا أصل لا أصل له، وعلة لا علة لها، لأنه لم يفعله فاعل على ذلك، بل صورة من شأنها هذا، والمادة من شأنها ذلك، والأمر مسبب على سنن ما ترى، فعلى هذا كل أحد ينتحل ما شاكله مزاجه، ونبض عليه عرقه، ونزع إليه شوطه، وعجن به طينه، وجرى بعد ذلك على دأبه وديدنه؟