للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حاله قط فيما سلف، لأن الطريق إلى تبيين ذلك وتحصيله مسلوك، والشاهد على ثمرة المطلوب قايم، والتقريب يدل على ذلك في هذا الوقت، وإن كان البرهان في الصناعة موجوداً إذا أخذت على ترتيبها الخاص لها في معرفة المنطق، الذي هو آلة في استقراء الطبيعة، التي هي مراق، وفي معرفة النفس التي هي طلبة كل ناظر في علم ومتحقق بنحلة، كان الإنسان لآخر سيرته في هذا العالم، فلما صمدت النفس لها حركت الطبيعة على تأليفها وتوزيع الحالات المختلفة فيها، وأعطتها النفس بواساطة الطبيعة صورة خصتها بها ودبرت أخلاطها وهيأت مزاجها، فظهر الإنسان في الثاني بشكل غير الشكل الذي كان لأجزائه التي مردها في آخر البحث إلى الهيولى بالقول المجمل. والكلام في هذا ذو شعب وذوائب، ثم إن الإنسان في معارفه التي يترقى في درجاتها يجد لنفسه قنية ليست كسائر القنيات، وهيئة ليست لجميع الهيئات، أعني الحكمة التي هي علم الحق والعمل بالحق، فيجول طالباً لبقائها، ناظراً وباحثاً عن حقيقة ذلك، حائراً إلى أن يبلغ بفرط العناية وجودة الفحص وحسن مشاورة العقل، إلى الحد الذي يفصح له بأن النفس ليست تابعة للمزاج، ولا حادثة بالأخلاط؛ بل هي مستتبعة للمزاج ومقومة للأخلاط بوكالة الطبيعة التي هي ظل من ظلالها، وقوة من قواها، وأن النفس ليس لها استعانة بالبدن ولا بشيء منه، وأنها خالصة لا شوب فيها، وقائمة بجوهرها غنية النفس عما يفسدها ويحللها ويتخونها ويؤثر فيها، وكيف يكون ذلك وهي لا تنفعل البتة، ولا رداءة فيها البتة؟ فبهذا وأشباهه ينفتح للإنسان أن النفس يمكن أن تطلب علم حالها بعد مفارقة البدن بالأمر الطبيعي، والسبب الضروري، فقد تجلى وانكشف أن البحث عن ذلك ليس بحثاً عن عدم مطلق، بل هو بحث عن أحوال منزلة مشهودة، مرتبة محدودة، بل هو بحث عما يتصور غايته ويطمأن إليه، تارة بالبرهان المنطقي، وتارة بالدليل العقلي، وتارة بالإيماء الحسي، والأمر الإلهي.

<<  <   >  >>