وجل نظر النحوي في الألفاظ، وإن كان لا يسوغ له الإخلال بالمعاني التي هي لها كالحقائق والجواهر؛ ألا ترى أن المنطقي يقول بخبر وهو ينفعل، والنحوي فيما خلاه اللفظ؟ ونظائر هذا المثال شوائع ذوائع في عرض الفنين والنظرين، أعني المنطق والنحو، وكما أن التقصير في تحبير اللفظ ضار ونقص وانحطاط، فكذلك التقصير في تحرير المعنى ضار ونقص وانحطاط، وحد الإفهام والتفهم معروف، وحد البلاغة والخطابة موصوف، والحاجة إلى الإفهام والتفهم على عادة أهل اللغة، أشد من الحاجة إلى الخطابة والبلاغة، لأنها متقدمة بالطبع، والطبع أقرب إلينا، والعقل أبعد عنا، والبديهة منوطة بالحس، وإن كانت معانة من وجهة الحس، وليس ينبغي أن يكتفي بالإفهام كيف كان، وعلى أي وجه وقع، فإن الدينار قد يكون رديء ذهب، وقد يكون رديء طبع، وقد يكون فاسد السكة، وقد يكون جيد الذهب عجيب الطبع حسن السكة، فالناقد الذي عليه المدار، وإليه العيار، يبهرجه مرة برداءة هذا، ومرة برداءة هذا، ويقبله مرة بحسن هذا، ومرة بحسن هذا، والإفهام إفهامان: رديء وجيد، فالأول لسفلة الناس، لأن ذلك غايتهم وشبيه برتبتهم في نقصهم، والثاني لسائر الناس، لأن ذلك جامع للمصالح والمنافع، فأما البلاغة فإنها زائدة على الإفهام الجيدة بالوزن والبناء، والسجع والتقفية، والحلية الرائعة، وتخير اللفظ، واختصار الزينة، بالرقة والجزالة والمتانة، وهذا الفن لخاصة النفس، لأن القصد فيه الإطراب بعد الإفهام والتواصل إلى غاية ما في القلوب لذوي الفضل بتقويم البيان.
قلت له: فما النحو؟ فقال: على ما يحضرني الساعة من رسمه على غير تصفية حده وتنقيحه: إنه نظر في كلام العرب يعود بتحصيل ما تألفه وتعتاده، أو تفرقه وتعلل منه، أو تفرقه وتخليه، أو تأباه وتذهب عنه، وتستغني بغيره.